د. فوزية البكر
نحن الآن في وقت الصيف حيث تغرد الطيور خارج حدودها شرقاً وغرباً وترى الأسر السعودية بأطفالها وبناتها وحقائبها الكثيرة وعاملاتها المنزليات المنوعات الجنسية في المطارات والفنادق والمطاعم بحثاً عن استراحة محارب لأفراد الأسرة التي تضطر خاصة مع الأطفال الصغار إلى أخذ العاملة معهم عند السفر رغم القلق من هربها الذي يظل يلاحقهم حتى لحظة المغادرة عائدين إلى ديارهم الميمونة.
ما يأتي لاحقاً من تفاصيل المعيشة اليومية لهؤلاء العاملات خلال السفر (الإرغامي) أو (الخدمي) هو ما يجب أن يدفعنا إلى التأمل فيما نفعله بهن أثناء السفر ولنبدأ أولاً بالمنظر المنكسر والثياب الرثة والأحذية الرخيصة كسمة تشترك فيها معظم العاملات المرافقات للأسر في الخارج رغم أن ربة المنزل قد تبيح لنفسها شراء الكثير من الألبسة والأحذية الفاخرة (ولا ضير في ذلك إذا كانت تستطيع) إلا أنها تستكثر شراء ملابس (طبيعية) قطنية وحذاء رياضي مريح للعاملة التي تسافر نفس المسافات وتقف على قدميها أكثر منهم جميعاً.
ولأن للسفر ظروفه الخاصة إذ إن المساحات في الفنادق أو الشقق المفروشة تكون أضيق من العادة بما يجعل المسكينة تأخذ النصيب الأقل من المساحة المتاحة للحركة أو النوم كما تبقى الأسر في الأماكن العامة أكثر من المعتاد تأكل وتشرب وتجد المرافقة ملقاة في امتهان على جانب الطريق تنتظر العائلة حتى تنهي وجبتها في المطعم فيقدموا لها ما بقي من طعام لم يتمكنوا من إنهائه أو هي على الطاولة لكن في الركن القصي منها لا تنظر لأحد ولا تتحدث مع أحد أو هي مع طبقات معينة قد أرغمت على ارتداء ملابس خاصة بالعاملات لتبدو أيضاً أنيقة مثل أسيادها! لقد أجبرت الحياة الفقراء على خدمة الأغنياء أفلا يحق لنا أن نشكر الخالق على نعمه ونستهدي بهدي سيد الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين قالها صريحة وواضحة: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
فهل يود أو يتحمل أي منا أن يرى أي من بناته في هذا الوضع المؤلم إنسانياً وحضارياً؟ لماذا يبدو سلوكنا الاجتماعي الذي هو مقبول تماماً في بلادنا مستهجناً جداً في الخارج؟ ببساطة لأن القيم التي تحكم الفضاء الثقافي هناك مختلفة كلية عن المفاهيم المحلية السائدة خاصة ما له علاقة بحقوق العمالة المنزلية ونظام عملها وساعاته ونوعه الخ رغم أن وزارة العمل والخدمة المدنية تحاول جاهدة إجراء تنظيمات قانونية تكفل حقوق الطرفين وتضمن الحقوق المادية من الكفيل وذلك عبر برنامج حماية الأجور للعمالة المنزلية الذي يضمن تحويل الأجور إلى حسابات خاصة بالعامل نفسه عبر الخدمات الإلكترونية للبنوك لكن الخدمات الحكومية لا تستطيع الدخول إلى كل منزل ولا إلى كل سلوك وتصرف وتبقى الحياة اليومية وطرق التعامل مرهونة بصاحب وصاحبة العمل أنفسهم وبقدر ما تحمل عقولهم من وعي وقلوبهم من خوف من الله ومحبة ورحمة إنسانية بقدر ما سيتعاملون مع العاملة المنزلية من منظور إنساني وديني أولاً وأخيراً.
لا أحد منا بالطبع يعتقد (أو ينوي) أن يظلم أو يعامل العاملة المنزلية بطريقة غير مناسبة إنسانياً، على العكس: جميعنا نعتقد أننا نراعي خواطرهن ونقدم لهن من المال والهدايا ما لم يعرفنه أو يكن متاحاً لهن في بلدانهن وكل ذلك لإرضائهن خشية فرارهن لكن السؤال الذي يطرح نفسه دائماً وأبداً عند تأمل هذه المشاهد في كل بلد أوروبي أو شرقي هو: هل نماذج التعامل السائدة بيننا للعاملات المنزليات محلياً مقبول بالمعايير العالمية عند السفر أو حتى داخل البلاد في وقتنا الحاضر؟ ألا يجب أن يدفعنا ذلك إلى مراجعة طرق تفكيرنا وتعاملاتنا ومناخ الحياة العام الذي تعيشه العمالة المنزلية داخل بيوتنا الذي ينتقل بالتربية الأسرية إلى الأجيال المقبلة التي لا تعي ما تراه حيث إنها ولدت ونمت ضمن المعايير الطبقية التي جعلت هذه الأنماط السلوكية التي نسقطها على العاملات المنزليات قبل وأثناء السفر مقبول قيمياً وسلوكياً من أطفالنا الذين (قد يشاركون أحياناً في بعض الإيذاء اللفظي أو حتى بعض الأنواع الخفيفة من العنف الجسدي) دون أن يرف لهم جفناً.
تنتقل الحضارة الإنسانية في عصرنا الحالي بسرعة مذهلة نحو عوالم جديدة من الثقافات الإنسانية المنفتحة على بعضها البعض حيث لم تبق الإنترنت الفرصة لأحد أن يتسيد على أحد وسنرى عالماً قيمياً جديداً يستظل بمفاهيم إنسانية توحد الجميع على أساس المكون الإنساني بغض النظر عن الطبقة أو الخلفية الاجتماعية أو الدين أو العرق أو اللون أو الجنس أو الوظيفة فمتى يا ترى نرى عاملة منزلية مهنية تقضي ساعات العمل المحددة ثم تذهب بسلام للنوم في منزلها ومع أطفالها؟