عبدالعزيز السماري
من أكثر الأشياء ألماً ومعاناة في الحياة أن يختفي إنسان، وهو في كامل هيئته وحيويته، وكثيراً ما يعاني الأبناء من مراقبة التدهور الذهني لأحد والديهم، وعادة يصل المصاب إلى مرحلة لا يعرف فيها من حوله، وتختلف مدة التدهور من سنوات إلى عقد أو عقدين من الزمان، ويعتبر مرض الزهايمر من أكثر الأمراض غموضاً في العلم الحديث، وما زال يشكل تحدياً كبيراً للعلماء الباحثين، وتم صرف مبالغ طائلة في البحث العلمي من أجل ابتكار لقاح أو دواء لمعالجة التدهور الذهني الذي يصاحب مراحل المرض الخطير..
في عام 1907، نشر الطبيب النفسي الألماني ألويس ألزهايمر وصفًا لامرأة تبلغ من العمر 50 عاما تعاني من مشاكل في الذاكرة، والهلوسة، والأوهام، وفي تشريح دماغ المرأة بعد الوفاة، لاحظ الدكتور الزهايمر وجود كتل غير عادية، أو «لويحات»، «كانت ناجمة عن ترسب مادة غير عادية». وبعد ثمانية عقود، تم تعريف المادة الغامضة في النهاية على أنها بروتين يسمى بيتا اميلويد. على الرغم من صغر حجمها، إلا أنها يمكن أن تتراكم في مجموعات كبيرة تكون سامة بطريقة ما للخلايا العصبية. هذه الصفائح الضارة هي واحدة من العلامات المميزة للمرض الذي يحمل اسم ألزهايمر.
كانت النقلة الثانية الأهم في سيرة هذا الداء الخطير ما حققه الدكتور وليام إيمر، عن طريق حقن فيروس الهربس المشترك HSV-1 في أدمغة نوعين من الفئران: القوارض العادية والأخرى التي تم هندستها وراثيًا لإنتاج مستويات عالية من بيتا أميلويد في أدمغتها، وكان هذا الأخير أفضل في مقاومة الفيروسات. ثم حصل إيمر على نتائج مشابهة عندما قام بحقن فيروس هربس، وهو فيروس HHV-6، في خلايا بشرية تنمو في طبق...
كثيراً ما تؤدي المثابرة والملاحظة الجيدة إلى العثور على نقطة التحول الكبرى في اكتشاف الأمراض وأسبابها وعلاجها، والدراسات الأخيرة يمكن أن تغير وجه علاج ألزهايمر، فقد تم تأكيد هذه العلاقة من خلال الأنسجة، وهو ما يعني أن فيروس الهربس البسيط له دور حيوي في هذه الحالة، ومفاده أن الدواء المضاد للهربس قد يكون له تأثير كبير على خطر الخرف، وقد يُعالج مرض ألزهايمر قريباً بالأدوية المضادة للفيروسات.
في الشهر الماضي ذكرت مجلة ميديكال نيوز اليوم عن دراسة وجدت «أدلة قوية» على أن الفيروسات تشارك في مرض ألزهايمر، وجدت تحاليل ما بعد الوفاة لأنسجة المخ أن الأشخاص الذين عاشوا مع هذا النوع من الخرف لديهم أيضاً فيروسات هربس في أنسجة الدماغ أكثر من الأشخاص غير المصابين بالألزهايمر، وليست هذه الدراسة هي الوحيدة التي تحدد الارتباط بين القوباء والخرف، وفي الواقع، هناك دراسات عديدة خلال السنوات الماضية، وبعضها يعود إلى أبعد من ذلك.
فحصت الدراسة الأخيرة أكثر من 8362 شخصاً في سن 50 وما فوق، وحصلوا على تشخيص مبكر لعدوى فيروس الهربس البسيط (HSV)، بالإضافة إلى مجموعة مراقبة من 25،086 شخصًا يتمتعون بصحة جيدة في العمر، وتمت متابعة المجموعتين لمدة عقد تقريبًا، بين 2001 إلى 2010. في مجموعة الهربس، وكان خطر الخرف أكثر من 2.5 مرة أعلى من المجموعة الضابطة، وبشكل ملحوظ، وكشفت الدراسة أيضاً أن تناول العلاج المضاد للفيروسات العدواني قلل من الخطر النسبي للخرف بمقدار 10 مرات.
لم يكن فقط حجم التأثير المضاد للفيروسات ملحوظًا، ولكن أيضًا دلل على حقيقة أنه -على الرغم من المدة القصيرة نسبيًا في توقيت العلاج لمعظم المرضى الذين تأثروا بالهربس، فقد أدى إلى منع الضرر طويل المدى في الدماغ الذي ينتج عنه مرض ألزهايمر، وتعتبر هذه الدراسة اختراقًا غير عادي، ولو أكدت الدراسات الجديدة بشكل متواتر هذه النتائج، ستكون مضادات الفيروس الهربسي قليلة الأعراض الجانبية علاجًا وقائيًا وربما شافيًا لمرض ألزهايمر في المستقبل القريب، وبعدها سيتمتع العالم بذاكرة أقوى بكثير من العصور التي خلت..