د. عبدالحق عزوزي
عندما أدرس أي مادة في الجامعة، أحاول مع طلبتي، بناة المستقبل، أن أجذر في عقولهم شروط العلم والتطور، وأبرز لهم قواعد التغيير والاجتهاد، وهي ثلاثة وبدونها لا يمكن أن يسمى العلم علمًا ولا يمكنهم أن يخطوا خطوات في بناء البلدان وتنمية العلوم: أولا، العلم هو علم مركب بمعنى أنه تمثيلية سببية وموضوعية للحقيقة، فربط الأسباب بالمسببات مسألة مصيرية في مجال العلوم أيا كانت والالتزام بالموضوعية والحيادية أمر لا مفر منه لتكون النتائج نتائج يمكن أن تعمم وتطبق، والنتيجة العلمية لا تسمى بالعلمية إلا أنها يمكن أن تعمم على الجميع، فالعالم أو الباحث في أي مجال يدندن في إطار ثلاثية الفهم والشرح والتنظير (وهنا بمعنى تعميم النتائج)، ومساحة العلوم ليست بمساحة صحفية أو ارتجالية، فلها قواعد عالمية وأبجديات رياضية وإن كانت تنتمي إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية. والخاصية الثانية هي أن نتائج العلوم أيا كانت يمكن أن تفند. فالعلم هو الحقيقة الفعلية للظاهرة التي تنحو نحو التأكيد، ولكن مع ذلك لا يمكن لنتيجة علمية أن يدعي صاحبها أنها الحقيقة المطلقة أو أن تحتكر تلك الحقيقة، والحقيقة المطلقة هي لله سبحانه وتعالى وحده العالم المطلع، والقادر المقتدر، أما العلم الإنساني أيا كان فهو لصيق بالإنسان وبطبيعته البشرية، أي يبقى جزئيًا وبالإمكان مراقبة تلك النتائج واختبارها بل وتفنيدها والإتيان بنتائج علمية أكثر واقعية ومصداقية في ميراث العلم؛ أما الخاصية الثالثة فهي أن العلم هو علم منشئ، بمعنى أن الهدف الأول والأخير لأي علم هو تنمية المجتمع والسعي الدؤوب لتطويره وتنميته... وهذا ما يجب أن يفقهه كل طالب وباحث، وأن يكتبه بماء الذهب في أولى صفحات تحصيله للعلم، لنغير واقع جامعاتنا العربية المبني على الحفظ ثم على الحفظ ثم على عدم الإنتاج والاكتفاء بما تفضل به الأولون....
فإذا أخذنا جانب التنمية التي تتحدث عنها المؤسسات والدول ولأفراد، فإنها تكاد تكون ظاهرة قديمة وطبيعية، سواء بالنسبة للكون الذي هو في حركة مستمرة لا تعرف التوقف أو الجمود، مع التوجه الدائم نحو التطور الذي يمس مختلف مظاهر هذا الكون، بما فيه من موجودات وكائنات تعيش فيه وتنعم بخيراته وثرواته. ويعتبر الإنسان كما يكتب العلامة عباس الجراري أهم المخلوقات التي تدرك هذه الحقيقة وتستفيد منها بجميع أبعادها، بدءاً مما يحتم عليه وجوده في هذا الكون، إلى الشعور بالحاجة لتنميته، سواء بالتطوير أو التغيير، مستغلاً في ذلك ما يكتشفه من جديد في محيطه، وما يكتسبه من علوم ومعارف ومهارات، وما يرنو إليه من تطلعات يحققها. وبهذا تتشكل حياة الفرد والمجتمع، وتنتظم فيها مؤسسات تعنى أولاً بالإنتاج المستجيب لإشباع الحاجات الضرورية على مستوى الفلاحة أو الصناعة، في الحدود التي تقوم بها الحياة ويستقر العيش، قبل أن تتسع هذه الحدود بما يكون لها من فائض تختزنه أو تسوقه. وشيئا فشيئا يبدأ التمايز بين المجتمعات ويتفاوت تقاسم الثروة بينها، فتتسع الفجوة وتتباعد الطبقات، وفق ما يكون لهذه المجتمعات من إمكان الاكتفاء الذاتي الضامن لعيش أفرادها، وكذا من فائض تصدره وتغتني به وترتفع إلى درجة التقدم والرقي؛ في وقت يظل الطرف الآخر المستورد لهذا الفائض في خصاص دائم، ويسْتمر طوق التخلف مشدوداً على عنقه.
إلا أن مثل هذه الحقيقة، تحتاج إلى اكتشاف الجديد واكتساب العلوم والمعارف والمهارات والخبرات، عن طريق إعمال العقل والفكر الخاصيات الثلاثة للعلم التي تحدثنا عنها في بداية المقالة، للتمكن من الإرهاص المفضي إلى الابتكار، أي إلى الخلق والإبداع والنظر برؤية لا مادية بعيدة لما يُخرج من مكامن التخلف، ولا سيما الفقر والجهل والمرض؛ مما يمنح القادر على ذلك والمتوسل به تفوقاً يَبرز به ويَظهر على من هو دونه..
وهكذا، فإن العقل التنموي هو الذي يؤمن بأن التنمية في عمقها هي كل مجهود يبذله الفرد والمجتمع، انطلاقاً من موارده وقدراته الذاتية، وانسجاماً مع خصوصياته، باعتباره هو الممثل للثروة الحقيقية من أجل تقدمه ورقيه في جميع ميادين الحياة ومستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هذا، مع تأكيد الحاجة إلى الانفتاح الداخلي بفكر نقدي وتوجه عقلاني ونظام منفتح، وبعلم نافع، وبالابتعاد عن كل ما يُلقي بالتبعة في تخلفه على عناصر مكذوبة، ومن تعليلات زائفة.