د.عبد الرحمن الحبيب
في ظل مواقف إدارة ترامب تجاه المنظمات الدولية واتفاقياتها يحتدم النقاش في الغرب حول إمكانية بقاء النظام العالمي الحالي الذي تشكل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وانبثقت عنه مؤسساته الدولية وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة وما تفرع عنها من منظمات في شتى المجالات، إضافة إلى المنظمات الدولية الأخرى المستقلة عنها كالناتو ومنظمة التجارة العالمية والاتحاد الأوروبي..
سأستعرض هنا خلاصة ومقتطفات للنقاش المحتدم هذه الأيام حول هذا الموضوع في المؤسسات البحثية والإعلامية في الغرب وعلى وجه الخصوص أمريكا. بصورة عامة، يحذر البعض من عواقب نهاية النظام العالمي الحالي ويرى أنه يستحق الدفاع عنه لأنه رغم سلبياته أفضل من الفوضى التي قد تشعل الحروب، بينما يعارضه البعض الآخر الذي يرى أنه نظام فاشل من الأفضل تغييره فالحروب مستمرة والنظام الحالي يخلق أزمات لا متناهية، فيما يرى آخرون أنه بغض النظر عن إيجابيات وسلبيات هذا النظام فالتغيير مسألة حتمية، وأن الدفاع عنه يمثل الحنين لماضي «النظام الدولي الليبرالي» الذي أصبح الآن مادة إيمانية بين العديد من منتقدي إدارة ترامب.
«نهاية نظام عالمي» كان هذا عنوان افتتاحية صحيفة ديلي تلغراف الأسبوع الماضي، متناولة الخلاف الأوروبي الأمريكي بشأن العديد من القضايا الدولية؛ قائلة «إن الرئيس الأمريكي يبدو سعيداً بكسر الالتزام بالموقف الدولية»، لكن الثمن الذي سيدفع لتحقيق ذلك هو التفكيك التدريجي لتوحيد موقف غربي في التعامل مع تهديد دول مثل إيران وروسيا. وتخلص إلى القول إن سياسة ترامب «أمريكا أولاً» تحطم النظام العالمي المتواصل منذ عام 1945 شيئاً فشيئاً، وستطال عواقبها بعيدة المدى الدول الغربية ثم بقية العالم.
قبل أسبوعين نشرت صحيفة نيويورك تايمز بياناً تحت عنوان «لماذا يجب علينا الحفاظ على المؤسسات والنظام الدولي» وقَّعه مجموعة من خبراء العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي الدولي البارزين، وكان له أصداء واسعة ونقاشات في المؤسسات البحثية الأمريكية بين مؤيد ومعارض.
البيان كان عن تجاهل (أو عدائية) الرئيس الأمريكي للمؤسسات الدولية البارزة، مشيراً إلى أن «النظام الدولي الذي تم تشكيله بعد الحرب العالمية الثانية يوفر فوائد مهمة للولايات المتحدة» رغم أن أمريكا تتحمل الحصة الأكبر من التكاليف؛ ويحذر من هجمات ترامب المتكررة على المؤسسات الدولية الحالية والانحدار للفوضى، مع الإقرار بأن «النظام العالمي هو بالتأكيد في حاجة إلى تغييرات كبيرة».
لكن هناك معترضين على هذا البيان وعلى الدفاع عن النظام العالمي الحالي، وغالبيتهم قد يقرون بالنقد الموجه لسياسة ترامب الخارجية، لكنهم مثل ستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفرد، يذكرون أن هذا النظام العالمي لم يعمل كما كان مفترضاً ولم يكن أبداً نظاماً عالمياً، ونتج عنه الكثير من السلوك الظالم من جانب الدول العظمى والقادة الذين أعلنوا باستمرار القيم الليبرالية العالمية.
ويحتج هؤلاء بأن بعض المؤسسات التي يدافع عنها البيان هي في الواقع مصدر للكثير من المشاكل التي نواجهها الآن، مثل حلف الناتو مؤسسة مهمة وقيمة خلال الحرب الباردة ولكنه بعدها صار أحياناً قوة مدمرة يتوسع شرقا بلا نهاية وبشكل غير مدروس.
وبالمثل، فمنظمة التجارة العالمية وسعيها المتهور للعولمة الرأسمالية المفرطة كان لها آثار اقتصادية ضارة بالملايين، ولعبت دوراً في الانتشار الشعبوي والتطرف القومي الذي يعيد الآن تشكيل السياسة في جميع أنحاء العالم الغربي ويمتد للدول الأخرى.
ويرد المدافعون عن البيان مثل الباحث إميل سمبسون (جامعة هارفرد) بضرورة التفريق بين نظام عالمي بقوانين دولية تُنتهك أحياناً وبين عدم وجود نظام.. إن كون النظام الدولي قائماً على القواعد، لا يعني أن القوى الكبرى لا تؤثر عليها بشكل كبير، بل يتم انتهاك بعض القواعد، لكنها استثناءات: فمن النادر أن تغزو الدول بعضها البعض، وعندما تحترم الولايات المتحدة القواعد الدولية في هذا المجال، كما هي الحال في حرب الخليج (1990)، كانت النتائج أفضل مما كانت عليه في الحالات التي لم يحدث ذلك، كما في غزو العراق عام 2003. نعم هناك هشاشة ومحدودية في عدالة النظام الدولي، لكن هذا لا يعني أنه نظام ليس له قيمة: فكل الدول لديها مصالح لا يمكنها تحقيقها بنفسها، وبالتالي فهي بحاجة إلى تطوير قواعد للعمل معاً. على سبيل المثال: اتفاقية باريس للمناخ، وهي أداة كلاسيكية في القانون الدولي؛ وكذلك الاتفاقات الدولية بخصوص غسيل الأموال والتهرب الضريبي في الخارج والاتجار بالبشر وما إلى ذلك.
وأخيراً، يقول سمبسون إن الأخطاء في النظام الدولي الحالي يمكن إصلاحها بينما رفض النظام برمته لا يطرح حلاً..
أما ستيفن والت فيختم قائلاً: «إن اعتراضي [على البيان] هو أن الدفاع عن النظام القديم بهذه الطريقة هو اقتراح خاسر من الناحية السياسية وإلهاء عن المهمة المتمثلة في معرفة الشكل الذي ينبغي أن يكون عليه النظام العالمي الجديد. وباعتبارنا مجتمعًا من العلماء، يجب أن ننفق وقتًا أقل في التطلع إلى الخلف والدفاع عن الوضع الراهن المضطرب، وأن نقضي المزيد من الوقت في التفكير في كيفية تحسين الوضع الحالي.