عبدالوهاب الفايز
في زيارة خاصة للمملكة، قبل حوالي ثلاثة أعوام، دعا الدكتور عبدالرحمن السعيد إلى جلسة عشاء مختصرة لتكريم براين مارلوني، رئيس وزراء كندا الأسبق (1984-1993)، ويومئذٍ كان الحديث صاخبا متجددا في كندا حول دعوات الانفصال لإقليم كويبك، ووقتها كانت هناك تصريحات وتلميحات صدرت من شخصيات سياسية أمريكية شبه مرحبة بانفصال كويبك، وبالنسبة لنا كسعوديين كنّا نرى الأمر غريبا وعجيبا: كيف تكون هناك مواقف أمريكية لا تدعم وحدة كندا واستقرارها!
في تلك الأمسية وجدتها فرصة لإثارة هذا الموضوع مع الضيف الكبير، وفعلا كما توقعت فقد أبدى أسفه لهذه التصريحات، وذكر أنه تواصل مع أحد الأصدقاء من السياسيين الأمريكان لمناقشة هذا الموضوع، وذكر أنه سأله حول (الفائدة للبلدين) من هذه التصريحات التي تخص أمرا داخليا كنديا.
السياسيون رجال الدولة أمثال مارلوني تزعجهم هذه التدخلات لأنها تمس أمرا سياديا حساسا ظلت كندا تعاني منه عبر تاريخها، وكما نعرف فالتوتر الناتج عن الانقسامات الإقليمية والثقافية مازال حيّا بين الفرنكوفونيين، والكاثوليك بكويبك، والناطقين بالإنجليزية البروتستانت في باقي كندا، وليس من مصلحة الوحدة الكندية تغذية هذه الانقسامات، ودعم دعوات الانفصال في كويبك، بالذات من الجار والشريك والحليف الأمريكي.
تذكرت هذا اللقاء ونحن الآن نطرح نفس التساؤل حول المصلحة التي توختها الحكومة الكندية من إثارة قضية داخلية سعودية بصورة فيها (غطرسة سياسية)، وتدخل في أمور سيادية لبلد ظل صديقا قريبا من كندا منذ عقود طويلة، وحميمية هذه العلاقة كنا نلمسها جميعا تلك الليلة في الحديث مع برلوني، هذا السياسي الذي يفيض حكمة وتجربة، وهو الذي استطاع وضع الأسس القوية مع ثلاثة رؤساء لأمريكا، وكانت تربطه علاقة خاصة مع ريجان، وعبر هذه العلاقة أنجز أهم الاتفاقات والتحالفات الثنائية بين البلدين، وعندما سئل فِي أحد الحوارات الصحفية المطولة معه قبل عدة سنوات عن دوره في هذه العلاقة المتميزة مع أمريكا، ذكر أن هذا الأمر الحيوي كان يقوده بنفسه ولَم يدعه للوزراء، وحققه عبر الحوار المباشر مع المسؤولين الأمريكان، لأجل بناء جسور الثقة والاحترام لمصالح البلدين.
برلوني يعد من (رجال الدولة الكلاسيك)، وهؤلاء مع الأسف بدأ يفقدهم المسرح الدولي، وهذا جاستون ترودو رئيس الوزراء الكندي الحالي ووزيرة خارجيته يقودان الدبلوماسية الكندية في أمور حيوية وتمس علاقات الدول وسيادتها عبر تويتر!، والسفير الكندي السابق في السعودية السيد ديفيد شاتيرسون أبدى تحفظه على هذا الأسلوب، ففي رأيه أن الدول تحل مشاكلها وتتعاون عبر الحوار المباشر الصريح، وقال: كنّا نفعل ذلك مع أصدقائنا السعوديين منذ سنوات.
لغة الحوار يفهمها ويقدرها رجال الدولة والدبلوماسيون الذين نمت ونضجت تجربتهم عبر العمل السياسي والدبلوماسي الطويل، هؤلاء يفهمون معنى وروح عمل السياسة وأدبياتها وأعرافها. وزير خارجية كندا السابق السيد جون بيرد أيضا كان أكثر حكمة ومسؤولية عندما انتقد حكومته، ففي رأيه أن الخطوة السعودية مع كندا لها أسبابها الموضوعية، فالسعودية تسعى لتوطيد وتوسيع علاقاتها مع كندا، وتواجه صراعات عديدة في المنطقة، وفِي نفس الوقت تقوم بإصلاحات رئيسية لتمكين المرأة ولتعزيز حقوق الإنسان، وذكر أنه عندما كان وزيرا للخارجية كان يذهب ويتحدث مع القيادة السعودية عن أمور عديدة، لذا السعودية وكبلد صديق لكندا لا تتوقع أن تجد هذه المعاملة (أي التدخل في شؤونها الداخلية) عبر التغريدات وليس عبر الحوار المباشر، وفِي رأيه أن رئيس الوزراء عليه أن يتحلى بالشجاعة و(يذهب إلى السعودية ليتحاور وجها لوجه، وليس عبر التغريدات).
نحن كسعوديين نقدر ونثمن هذه الآراء والمواقف الكندية الصادقة، وفِي كندا ثمة مبادرات من المسؤولين الكنديين، خارج الحكومة، أبدت انزعاجها وعدم رضاها عن أسلوب الحكومة وطريقة تعاملها بصورة تضر بكندا وبمصالحها وسمعتها، وتبقى المشكلة في (السياسي المؤدلج الذي يبني مواقفه على تصورات وأفكار خاصة شعبوية) قد لا يكون لها علاقة بمصالح عليا لبلاده، وهذا يبدو توجه رئيس الوزراء الحالي لكندا.. يريد أن يكون (نجما) سياسيا، وليس (قائدا)، وأجزم أنكم تعرفون الفرق!