د. محمد عبدالله العوين
تناقلت وسائط التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لأحد المبتعثين من أبناء الوطن تطعن في العقيدة الإسلامية ويدعو فيها إلى إباحة محرمات والسخرية من العبادات والاستهزاء بالذات الإلهية، والإساءة إلى الدولة، وإلى شعب عربي، وإلى لهجة منطقة عزيزة علينا، ويبث أفكاره وهو في حالة نفسية مضطربة متذبذبة بين الإلحاد والإيمان والشك واليقين والإثبات والنفي، ويندفع في الحديث في كل ما يعن له من خواطر وليدة اللحظة دون أن يحسب للكلمة حسابها ولا للرأي تأثيره.
ظهر متناقضاً يضرب بعرض الحائط اليوم ما كان مؤمناً به أمس، يبدو مطمئناً حيناً متمرداً حيناً آخر، متقلّب المزاج، متحول الأفكار، متعجل الرؤى.
ومن خلال قاموسه اللغوي والاستدلالات الدينية واعترافه بشيء من سيرته الذاتية يتبين أنه نشأ في بيت متدين وعائلة محافظة، أدخلته أسرته إلى مدارس تحفيظ القرآن الكريم وعاش فيها سنوات من طفولته وتلقى علومه الدينية من خلال مناهج مدارسنا وعاش متصالحاً مع نفسه متوافقاً مع قيم المجتمع إلى أن حصل على بعثة دراسية إلى أمريكا ومن هنا بدأت الصدمة الحضارية!
بث مقطع فيديو يبكي فيه، يتمزّق ألماً، دموعه تغرق وجهه، يشكو نفسه المعذبة إلى نفسه، يتحدث عن تلك اللحظة التي قلبته رأساً على عقب بعد أن وطأت قدماه الأرض الأمريكية، وينتظر لحظة الخلاص من المأزق الديني - كما يقول - وصدمة الثقافات التي لم يحتملها فبددته ومزقته وشتت رؤيته إلى الدين والأخلاق وجعلته رأس حربة يطعن بها مجتمعه والقيم التي نشأ عليها وتغذى بها وأصبحت جينات في جسده لا يستطيع أن يتخلص منها مهما بلغت ذروة التمزّق وحدة الشك والقلق في نفسه.
وجد هذا الشاب ذاته فجأة في مجتمع مختلف كل الاختلاف عن مجتمعه؛ ديناً وتقاليد وعادات وأسلوب حياة، وجد نفسه في مجتمع يضع أمامه خيارات السلوك مفتوحة لا يحتكم إلا إلى عقله وأخلاقه وما يحجزه عن أي سلوك شائن من قيم دينية تربى عليها في مجتمعه المحافظ، وعزَّز صدمته الحضارية بقراءات فكرية متعددة ساق عناوين لبعضها وأشار إلى مفكرين اتكأ عليهم ليقيم من خلالهم له رؤية فكرية يعتقد بقوتها وعدم اضطرابها.
تمثّل شخصيته حالة قلقة مضطربة متسائلة في البداية ثم تحولت في سياق زمني امتد ست سنوات من الإعجاب بالآخر والتساؤل عن ماهية الدين والقيم إلى الشك، ثم من الشك والقلق إلى الإلحاد الذي يجاهر به مزهواً؛ إلا أنه زهو لا يبتعد كثيراً عن سطح الكلمات الخلاّبة المندفعة وليدة اللحظة ثم يعود يتباكى من القلق الذي يمزّقه.
ولا شك أنه حالة شاذة نادرة لا تشكِّل قلقاً على مشروع الابتعاث الحضاري العظيم الذي خرَّج عشرات الآلاف من أبنائنا المميزين المنسجمين مع قيمهم ومجتمعهم والمتفاعلين بإيجابية ووعي لمفهوم اختلاف وتنوّع الثقافات الإنسانية، وهي نماذج رائعة نباهي بها حقاً.
إن احتواء هذا الشاب والتعامل معه باللين بدل القسوة، وبالعلاج النفسي بدل العقوبة، وبالحوار بدل الإهمال خير سبيل إلى عودته إلى الحق بدل الضلال والاعتدال بدل التطرف.