د. جاسر الحربش
لأن المقال عن السياحة في أوروبا التي انبعثت فيها النعرات القومية من جديد مثلما كانت بداياتها من قبل، سأحاول قطع الطريق على من قد يسأل، لماذا إذاً أفضل السياحة العائلية في النمسا، وليس في دبي أو اسطنبول أو القاهرة. على مدى أكثر من عشرين سنة أقضي مع عائلتي إجازتنا السنوية في النمسا. الأسباب كالتالي : الطبيعة متنوعة وخلابة، والتعامل مع أهل البلاد سهل لمن يلتزم بأنظمتهم. لم يتعرض أحد من العائلة ولو مرة لتسمم غذائي، ولم يتعرض للغش أو السرقة في الأسواق والمطاعم والسكن أو المواصلات، والأسعار أرخص من دبي وقريبة من اسطنبول، لكنها بالتأكيد أغلى من القاهرة، ولم نشاهد يوماً حادث مرور مروعاً أو شجاراً عنيفاً أو إزعاجاً أخلاقياً متعمداً مثل التحرش أثناء التجوال. هذه الباقة من الميزات للسائح في النمسا يصعب توافرها في عاصمة عربية أو إسلامية وكذلك في لندن وباريس وجنيف، وهذه هي الوجهات المفضلة للقادرين من الخليجيين للسياحة.
لكن ليس التفاضل أو التكامل بين الأماكن السياحية هدف المقال، وإنما المقارنة بين موقفين أحدهما افتراضي متخيل والآخر فعلي يتكرر، وشاهدته على الخفيف من قبل، ولكن في المرة الأخيرة في هذا الصيف كانت المشاهد أثقل.
لنفترض مجموعة سياح نمساويين يتجولون في الرياض في عز الصيف بملابسهم الصيفية المعتادة في بلادهم، رجال ونساء وشباب وبنات وأطفال بيض مثل السحالي الخارجة لتوها من باطن الأرض تتجول في الرياض، ليس عليهم سوى سراويل قصيرة تستر بالكاد منطقة الحوض، أما باقي الجسد بما في ذلك الظهر وأسفل البطن فمتروك لما نسجته الريح من جنوب وشمال، ربما لاكتساب بعض اللون البرونزي وتنشيط فيتامين دال وتهوية التلافيف والتجاويف. هذه هي فعلاً ملابسهم الصيفية المعتادة للتسوق والتنزه والغدو والرواح والأكل في المطاعم. تخيلوا معي كيف يكون التقبل الجماهيري لهم بهذه الملابس اللا ملابس في المجتمع السعودي، واترك تخيل الاحتمالات لكم.
والآن أعود لما شاهدته فعلياً هذا الصيف في العاصمة النمساوية وكيف تعامل بعض المارة من أهل البلاد مع منظر ثماني سيدات خليجيات يتجولن في مركز المدينة بكامل الزي التقليدي الخليجي الثقيل، وبعباءات سوداء ما عدا أن النقاب تمت استعاضته بالحجاب خضوعاً للقوانين الأمنية هناك. كان صيف هذه السنة شديد الحرارة في النمسا وفي كل العالم، وأهل البلد يتصببون عرقاً وهم أشباه عراة، ولذلك كانت مشاهد الاستغراب مثيرة والتعليقات على السائحات الخليجيات عنصرية وغير مألوفة من قبل، ولم تكن بهذا الوضوح في السنوات الماضية. لأنني أجيد لغتهم واستشف المعاني المكتومة من قسمات وجوههم، فهمت الهمس المتكرر بعبارات الاستهجان والتساؤل لماذا لا يبقى هؤلاء في بلدانهم، ولاحظت الأعداد المتزايدة لمن أخرجوا جوالاتهم والتقطوا الصور لتسجيل المنظر غير المنسجم مع السياحية الصيفية النمساوية.
لا يوجد بيننا عاقل يتمنى لمجتمعنا التنازل عن عاداته في الستر واحترام الجسد، ولكن التخفف مما لا لزوم له لدواعي الستر وثبت ضرره لصحة الجسد يصبح من لزوم ما لا يلزم، على الأقل في السياحة الخارجية. المؤسف عندنا هو التحول السريع نحو الافتتان بالاستعراض الجسدي بطريقة لاهي ستر ولا عري يتعمد الإغراء المقنع أحياناً والمكشوف أحياناً أخرى.
أختتم ببعض التساؤلات: لماذا لا يستنتج السائح الخليجي أن اغترابه واستهدافه في أماكن السياحة الأجنبية يزداد مع درجة شذوذه عن السائد هناك في اللباس وطبقات الصوت المرتفعة ومحاولة التسلل من ثغرات الطابور للحصول على الخدمة قبل من سبقوه؟. بما أن أرض الله واسعة وفي البلاد العربية والإسلامية أماكن خضراء وجميلة كثيرة مناسبة للسياحة والاستجمام، لماذا لا يختار المتمسك بلباسه التقليدي من الجنسين بلداً إسلامياً يسهل فيه القبول الاجتماعي وتتقارب الطبائع ويمكن الانسجام؟.
وفي الآخر ملاحظة: العنصريات القومية بدأت تتسارع وتائرها في كل مكان، في ميانمار والهند والشرق الأوسط والصين، وبتسارع أكثر في الدول الغربية الأمريكية منها والأوروبية. سعة الصدر التي كانت موجودة في النمسا قديماً بدأت تتقلص، وأظن السبب هو الخوف الاقتصادي من منافسة الغريب اللاجئ والمهاجر والمتسلل على أماكن العمل. عندما تتوقد العنصرية لا تفرق بين سائح أجنبي أحضر مصاريفه معه وبين آخر هدفه البحث عن مصدر رزق وجيوبه خاوية، فيصبح المظهر الخارجي اللافت مجرد فتيل للتعبير عن المكبوت.