د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** مثلما حظرت جمعيةُ باريس اللغويةُ النقاش عن أصل اللغة في منتصف القرن التاسع عشر -كما يروي المهتمون- فإن شبيهًا لها يتم اليوم حول اللغة العربية التي يُرادُ - قصدًا أو تساوقًا - تجاوزُ الحوار حول نحوها وصرفها وإملائها وعروضها وفقهها وبلاغتها؛ فالأهم بلوغ المعنى ولو على عربة إسعاف أو داخل تابوت، وقد أثار مقالا صاحبكم - الخميس قبل الماضي والذي سبقه - «لغة البيانات وعقل التحول»- «أين البيانات عن البيان..؟! المنشوران في 26-7 و2-8 /2018م بعض الجدل حول قيمة اللغة في زمنٍ لا يعرفُ الناصبَ من المنصوب ولا الخافض من المرفوع، ويعنيه الرقمُ المجرد والجملة المباشرة، ولا داعي لما وراءهما من بيانٍ أو فصاحةٍ أو بديع.
** والمفارقة أننا - في الوقت نفسه - نمتدحُ فصاحة اللغات الأُخر ونطربُ لموسيقاها، ونتداولُ الطُّرف التي تروى عمّن يخذلُ قواعدَها من الرموز العلمية والمجتمعية، وما نزال نشيد بمن يمتلكون بناءً بيانيًا فيها، ثم نلتفت إلى «اللغة العربية» فنأسى بعدما سامها من لو أُعيدوا إلى مقرري القواعد والإملاء في الصف الرابع الابتدائي لما اجتازوا اختباراتهما.
** تفرُّ اللغةُ الصحيحة فنشهد خفوتَها وهوانَها والهزءَ بها والنظر إلى المحتفين بها بصفتهم «متفذلكين - متقعرين - متشددين « لا يزالون أعرابًا يقتاتون من فتات موائدِ «الضلِّيل والمهلهِل»؛ فليكتفوا بأطلالهم وليقفوا كيفما شاؤوا أو يقعدوا فلن يُساءلوا كما صنع النواسيُّ، ولن يُقنَّعوا مثلما وجّه عمر.
** يقال عن إحدى القبائل الفقيرة: إن أهلها يحذفون عند كل مأتمٍ مفرداتٍ من لغتهم حزنًا على فقيدهم حتى صارت لغتهم، واسمها: «البابو»، في طريقها للانقراض، وربما بتنا نفعل الشيء نفسه للغتنا الفصحى مع كل مشترك جديد في الوسائط الرقمية، ولا يعنينا هنا أن اللغة العربية هي الأكثر نموًا على الشبكة «السايبرية» مقتعدة المركز الرابع بعد الإنجليزية والصينية والإسبانية، ومتقدمة على البرتغالية والإندونيسية والفرنسية واليابانية والألمانية والروسية؛ فإنما عدُّوا المفردات، ومن قال يومًا: إننا صامتون؟! كما لم يُروَ عنا أننا صامدون!
** ولو أحصى متابعٌ أخطاء أساتذة أقسام اللغة العربية في جامعاتنا ومعلميها في مدارسنا لرأى عجبًا، وليس بعيدًا عنهم أقسام التصحيح في الصحف والمطابع ودور النشر التي لم يعد يُهِمها إن صدر المقال والكتاب والديوانُ خِلوًا من التصحيف أم مليئًا به؛ فإنما هم تلاميذ أولئك، ومن فقد لا يُعطي كما يقول مثلنا العتيد.
** يهزأ كثيرون بمن يرى اللغة - الوعاء كالإنسان- اللباس، وكما يحرص المرء على مظهره فإن اللغة مظهر وجوهر، ويتمنى من يجيدها أن يغضَّ طرْفَه عن بعض اقتناعاته، لكنه عنادُ الصمود الذي يُجبر المرءَ على عدم التنازل ولو بقي في الميدان وحيدًا، مثلما يعيب من بقي منهم تناقلُ ما يرون فيه معيبًا لغويًا وإملائيًا ويُجهدون أنفسهم في محاولة التفصيح، ولكن: على من يتلو مزاميرَهم؟!
** اللغةُ الفصحى هُويةٌ منسية.