إذا كان العقل البشري، منح الإنسان خاصية تشريفية، وميزة علوية، إذ به نجح في اكتشاف المجاهيل وغزو الفضاء ومعاينة الأفلاك وإحراز تقدم تقنيٍّ منقطع النظير، إلا أن ذلك العقل ما زال يجهل كثيراً عن عالم قريب ومتولد منه وهو: فضاءات الأفكار. ربما يعود ذلك لمعطيات على رأسها: أنه لم يلتقط الفرصة بعد للخروج من قبضة الأفكار ومعاينة صلاحيتها وجدواها ومصداقيتها من كافة الأبعاد.
سأستثني من مقالي عقيدة الإسلام؛ فهي في أصولها ربانية المصدر، تجتمع في قبولها الفطر السوية والقوى الإيمانية، ويتلقاها بالتسليم الجانب العميق من النفوس غير الإرادي. لذا فهي تُعاش ولا تُقاس.
في حين أن الفكرة، محكومة بالقوانين الكونية؛ فهي تحمل قوة نافذة، تتحرك بشكل طاقي مكثف لفرض الهيمنة وتشكيل الوعي الجمعي، ومن ثم الإمساك بزمام قيادة الحراك الاجتماعي.
وبالإضافة الى أن مرجعيتها البرهان العقلي -بصرف النظر عن درجة مصداقيته- فالأفكار تستمد روحها وديمومتها من القبول الجماهيري وهو في ماهيته؛ مجموع مشاعر كثيفة، تقدم لها فيوضات من الولاء والاهتمام.
وفي حين أن طبيعة المشاعر لا تتغير، فالحب يبقى حباً والكراهية تبقى كذلك، إلا أن الأفكار -و هي بمثابة القوالب التي تسكب بها المشاعر- دائمة التشكل والتطور.
والفكرة تقوى ويشتد عودها، تبعاً لمعطيات خارجة عنها؛ ككثرة أتباعها، والإيمان الثابت بها، هذا فضلاً عن مجموعة من المعطيات المادية التي تشكل منظومة تفاعلية تٌدار بدهاء بغرض إحكام القبضة على الأتباع بالخطاب العاطفي، أو العقلي المعرفي تارة أو بالقوة والتعسف، وفي حالات يتم ذلك من خلال التلاعب بالانفعال الشعبوي إما بالجذب والإغراء من خلال الشعارات الترويجية، أو الأخبار المفتعلة، التصريحات المستفزة، وإشاعة مشاعر الخوف والقلق والإحباط...
وتساهم كافة العناصر السياسية، الاجتماعية، التعليمية، الأدبية والفنية بدور بارز في الترويج للفكرة بعد أن خضعت لهيمنتها، وتكيفت معها، وانطبعت بطابعها.
ولذا فإن تلكم الإجراءات التي جمعت بين اللعب على أوتار اللذة والألم، والترغيب والترهيب، من شأنها أن تنجح إلى حد كبير في كبح جماح غرائز الجموع من الفئات المعارضة والناقمة لتجنب المخاطر والبقاء رهن قبضة الفكرة.
هذا وعلى الرغم من كافة الاحتياطات التي قد تطيل في عمر الفكرة لعقود متعاقبة أو يزيد إلا أنها لا بد وأن تخضع لقانون الدورة الحياتية، شأنها في ذلك شأن الأحياء والمجتمعات وكافة الظواهر الطبيعية، فيبدأ مؤشر الحركة بالاتجاه صوب الهبوط، ولا تلبث حتى يعتريها الضعف والذبول فينطفئ بريقها، وتفقد عنصر الجذب فينفض الأتباع، تباعاً، متجاهلين تلك الفكرة التي تفاخر بها أجدادهم زمناً وفي المقابل فقد آن الأوان لاشتداد عود فكرة أخرى مناقضة ومنافسة.
إلا أن هناك أفكارًا تتسم بخاصية البقاء، وإن اعتراها ما يعتري الأحياء من خبو وضعف، إلا أنها قد تفقد قوتها ولكن لا تفقد وجودها. ويعود ذلك لمعطيات منها الوجود الحقيقي الذي تتفرد به، ولماهية التجذر والتجدد معاً الذي تتميز به، أضف لذلك ما تحمله في جوهر مادتها من حقيقة دون تناقض أو تضاد، أما ما تتمتع به من مرونة وقدرة على التشكل والتطور، فهذا عائد إلى ما تحمله في طياتها من أفكار جزئية صغيرة، يمدها بقدرة فائقة على التكيف والتأقلم مع الوقائع المتجددة.
للأفكار دوماً أتباع وأنصار منقسمين في أسلوب ممارستهم، بين تيار متطرف، وآخر معتدل، وثالث معادٍ، واللافت أن الصنف الأخير وهو المعارض يعد ممن يسهم في اشتداد صلب الفكرة ونموها المطرد في كل مرة يجاهر فيها بمعاداته، دون أن يعي أو يقصد ذلك، ببساطة لأنها تحمل في طياتها حقيقة. والحقائق يجتمع في خدمتها الأصدقاء والأعداء معاً...
؛{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}.