يقول ونستون تشرشل: (الديمقراطية نظام سيء ولكنه الأفضل من بين خيارات كلها سيئة). لكن مراهقي السياسة والمهزومين نفسياً والمفتونين بكل بضاعة غريبة يسوقون الديمقراطية في مجتمعاتنا على أنها منتج مقدس، ويتبجحون بها وبالانتساب إليها مهما كانت ثقافتهم اضطهادية، وتصرفاتهم تقطر استبداداً وسادية!
من الناحية العلمية التي يصعب إنكارها أو الجدال فيها أن الحياة قائمة على التخصص، والرجوع في كل علم وصنعة لأهل الخبرة بها، فمحرك السيارة إذا أصابه عطل رجعنا به إلى المختص بالميكانيك، وبناء الجسور إلى المهندس، والمريض يرجع به إلى الطبيب.. وهكذا، وكذلك شؤون السياسة، والله تعالى يقول: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (59) سورة الفرقان، وفي كلام أهل التفسير مثل ابن كثير والقرطبي وغيرهما ما يفيد الاحتجاج بالآية على عموم لفظ (الخبير).
هل يعقل أن يكون الرجوع في عطل السيارة إلى العاملين في ورشة التصليح بمن فيهم من مساعدين وعمال غير ماهرين وحراس وكسبة ومن جاورهم في السوق، ثم نعمل تصويتاً لمعرفة نوع الخلل وكيفية تصليحه؟ أم نسأل المصلح المختص ونسلم له دون سواه؟ وإذا أردنا بناء جسر هل نجمع أهل المدينة ونجري استفتاء فيما بينهم لتصميم وتنفيذ البناء، أو نسلم الأمر للمهندسين المختصين؟ ولو افترضنا حصول خلاف بين المهندسين هل نشرك غيرهم في حسمه، أم نترك الأمر لهم في ذلك؟ وإذا مرض أحدنا وذهبنا به إلى المستشفى هل نقول لكل موظفيه والعاملين فيه: اعملوا استفتاء فيما بينكم لتوصيف علاجه، أم نذهب به من فورنا إلى الطبيب دون سواه؟ وقد يختلف الأطباء في مرضه: تشخيصاً وعلاجاً، فهل سمعتم يوماً أن وزارة الصحة وكلت الأمر إلى أبناء العشيرة أو سكان المدينة ليدلوا بآرائهم في صندوق ثم يؤخذ برأي الأغلبية؟ هل يعقل هذا؟!
لكن هذا ما تلزمنا به الديمقراطية في أمر هو أصعب على الفهم وأعقد على الحل من الميكانيك والهندسة والطب وغيره، إنه السياسة!!
الديمقراطية تلغي الخبرة والكفاءة، وتساوي بين الخبير والخفير في أخطر شيء في حياة البشر، هو الحكم وتسيير أمور الشعب ورعاية مصالحه! فهي تمنح الحق لجميع الناس في الترشح لأي منصب، وما تشترطه لذلك من شروط فهي سهلة وخفيفة ويمكن تزويرها والتلاعب بها، وغالبها ليست منتجة ولا علاقة مؤثرة بينها وبين المنصب المفتوح الوصول إليه من الأصل، مثل حيازته على شهادة الثانوية، وبعد الترشح يسلم أمر انتخاب المرشح لا إلى النخبة من أهل الخبرة والاختصاص، وإنما إلى الجمهور، الذي يتفق جميع علماء الاجتماع أنه عاطفي ومنخفض الوعي.
والواقع يشهد أن الجمهور لا ينتخب المرشح لأسباب موضوعية قائمة على أساس علمي، إنما لأسباب غالبها خارج نطاق الخبرة والاستحقاق؛ فتجد الواحد منهم ينتخب المرشح المثبت اسمه في بطاقة الانتخاب لكونه قريبه، أو نسيبه أو صديقه أو من عشيرته، أو حزبه، أو تجمع بينه وبينه مصلحة، أو اتباعاً لفتوى (السيد) أو (الفقيه) البعيد عن السياسة من الأساس، وبعض المرشحين يعطي لكل ناخب بعض المال - عشرة دولارات مثلاً - ويحلفه عند باب المركز الانتخابي على ألا ينتخب أحداً سواه، وقد يكون الاختيار لأسباب مزاجية تتعلق بقيافة المرشح وشكله وجنسه.
والأسباب السخيفة التي يتم التصويت لفلان دون فلان بناءً عليها لا يمكن حصرها، وتتعدد وتتنوع حسب آليات الانتخاب، قيل لإحدى الناخبات وقد لون الحبر إصبعها: من انتخبت؟ فأجابت: انتخبت قائمة السيد السيستاني، بعد عيني! أم تريد مني انتخاب هؤلاء السفلة أحمد الجلبي وإبراهيم الجعفري؟ المسكينة لا تدري أن (هؤلاء السفلة) في رأس قائمة (السيد السيستاني)!
** **
- العراق