د. عبدالحق عزوزي
لقد مرت الإنسانية دائمًا بأزمات سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو تجارية، بل إنه ومنذ أن تمكنت الرأسمالية من السلطة، بدت الأزمة حالة طبيعية. غير أن العالم يعيش صدمات قوية واضطرابات كبيرة وتغيرات مهمة تؤدي إلى تغير الميكانيزمات التجارية والاقتصادية والمالية الدولية.
فمنذ أيام منيت شركة فيس بوك بأكبر خسارة في تاريخها بالبورصة إثر انهيار أسعار أسهم شبكة التواصل الاجتماعي الأكثر استخداما في العالم، مما كبدها خسارة بالملايير من رسملتها، في سابقة في تاريخ وول ستريت. كما أننا نتذكر الأزمة المالية لسنة 2008، التي كانت أزمة اقتصادية، وبالطبع فهي لم تكن الأولى في التاريخ ولكنها الأولى التي يمكن اعتبارها كونية.
انهارت إذن أسعار أسهم فيس بوك، وهي أكبر شبكة للتواصل الاجتماعي في العالم، منذ أيام قلائل في نيويورك، مما تسبب في خسارة تقدر بـ119 مليار دولار من رسملتها في البورصة. ومنذ افتتاح المبادلات الأولى سجل سعر سهم فيس بوك تراجعا، وانتهت الجلسة على سعر 176,26 دولارًا للسهم الواحد أي بتراجع نسبته 19 بالمائة، ما يخفض قيمة رسملتها السوقية إلى 510.2 مليارات دولار. وقد أدت تلك الخسارة إلى انخفاض مؤشر «ناسداك» الذي يشمل عددًا من شركات التكنولوجيا الذي خسر بدوره 1.01 بالمائة من قيمته. ومما زاد من حدة التراجع أن أسعار أسهم الشبكة كانت مرتفعة جدًا في المبادلات، لذلك يمكن أن تكون قد تأثرت بعمليات لسحب الأرباح.
ولا غرو أن المستثمرين لم يكونوا يعلمون على ما يبدو المخاوف المرتبطة بفضيحة المعطيات الشخصية، التي تم تسريبها إلى الشركة البريطانية «كامبريدج أناليتيكا» وعلى التحقيقات الجارية والتي تنذر بفضائح وعقوبات قضائية لا متناهية.
وعدم العلم هذا يذكرنا بما جرى في في بداية شتاء 2006، عندما وجدت العديد من الأسر الأمريكية الأكثر فقرًا، التي عرضت عليها القروض العقارية الرهنية، نفسها غير قادرة على سداد ديونها. وبدأت البنوك في مصادرة الممتلكات، كما بدأ المالكون المثقلون بالديون في بيع ممتلكاتهم قبل أن تصادرها البنوك، مما أدى إلى عدم التوازن بين العرض والطلب في سوق العقار وانخفضت الأسعار. وهكذا، وجدت البنوك ومضاربوها «الانتحاريون» أنفسهم بمساكن مصادرة وغير قابلة للبيع، وباستثمارات لا قيمة لها إضافة إلى مشاكل السيولة...
تحولت المحافظ المالية المضاربة التي كانت تجلب أرباحًا هامة للأبناك الأمريكية والأوروبية، إلى كابوس مالي. ففي الواقع، وابتداء من منتصف 2007، بدأت كل الأصول المورقة تثير الشكوك واكتشفت البنوك الأمريكية ثم السويسرية والإنجليزية والألمانية والفرنسية أن لها شيئًا من هذا في كشوفاتها أي أنها محشوة بقروض عقارية غير قابلة للسداد مقسمة على الزوايا الأربع للكرة الأرضية في المنتجات المالية المتطورة والكل يريد التخلص من هذه الديون. والعديد من الدول بدأت ترى فرار رؤوس أموالها، وصارت البنوك في كل الدول المتقدمة قلقة مما يمكن أن يوجد من «سموم» في حساباتها وسارعت إلى قطع القروض على الكثير من المقاولات السليمة.
في بداية شتنبر 2008، تحولت أزمة الرهون العقارية إلى أزمة بنكية، وانهار البنك الأمريكي الشهير Lehman Brothers. ويرجع سبب هذا الفشل بالطبع إلى الاستهلاك القوي للأصول الموجودة في محافظ الرهون العقارية. وبلغت الخسارة إلى ما يقارب 4 مليارات دولار. فقد كان بنك ليهمان براذرز، ولمدة 150 سنة، بنك الاستثمار العالمي الذي يقترح خدمات مالية متنوعة، وحقق 4 مليارات دولار سنة 2006. فكانت النتيجة حصول ذعر شامل أصاب القطاع البنكي، حيث توقفت الأبناك عن منح القروض، وصار الاقتصاد على وشك الاختناق. وبانهيار هذا البنك العملاق وبتأثير الدومينو، انخفضت أعمال البنوك الأخرى مؤدية إلى انخفاض حاد في المراكز المالية الدولية الرئيسية.
عبرت الأزمة في النهاية بشكل بطيء لكن بشيء أكيد، من الولايات المتحدة الأمريكية والمحيط الأطلسي لتصل إلى البنوك الأوروبية الكبرى، وبدأت تختفي الثقة تدريجيا كما ارتفعت البطالة وأضر الركود بالميزانية العامة للدول مع تراجع في النفقات...
إن أزمة القروض وأزمة الديون السيادية وأزمة فيس بوك وغيرها هي فصول لنفس القصة. إنها المرحلة الاستثنائية لعالم اليوم الذي أصبح خارج السيطرة. إنها قصة الثلاثين سنة التي لم تنته بعد، والتي يعمل كل بلد على ملاءمتها مع خصوصياته وعاداته المحلية.