خالد محمد الدوس
علم الاجتماع من العلوم الإنسانية الحديثة التي تشكل المرتكز الأهم للدراسات الاجتماعية وأكثرها جذبًا للناس, ولكنه ليس أسهلها ولا أبسطها في الدراسة وذلك لأن العلاقات الإنسانية التي تمثِّل موضوع هذا العلم الحيوي يمكن أن تكون معقدة أشد التعقيد، كما يزيد من صعوبة هذه الدراسة ويعوقها, أن أهم جوانب العلاقات الإنسانية ليس واضحًا للعيان وليس ظاهرًا، بالإضافة إلى أن بعض جوانبها لا يمكن ملاحظته ملاحظة مباشرة, وهنا تكمن درجة الصعوبة والغموض.
ولقد اهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء هذا العلم الأصيل واستخدام مناهجه العلمية في دراسة المجتمع وظواهره واكتشاف قوانين النظام الاجتماعي الذي يحافظ على استقرار المجتمع وضبط توازنه, وقد ساهم كثير من المفكرين والمنظرين والعلماء في إثراء هذا الميدان العلمي الخصيب, وإشباع اتجاهاته السوسيولوجية, وكان للعلماء المسلمين دور فاعل في دراسة تركيبة المجتمع, ولاسيما في عصر النهضة الإسلامية العربية في العصور الوسطى.
ويعد الأب الثالث لعلم الاجتماع أيميل دوركهايم من أشهر علماء الاجتماع هو أحد الآباء المؤسسين، هذا إذا لم يكن «الأب المؤسس»، لميدان علم الاجتماع، كأحد مشارب العلوم الإنسانية. وفي كل الحالات، يمثل أشهر علماء الاجتماع في التاريخ الفرنسي بعد اوجست كونت الذي وضع دعائم قيام وتأسيس علم الاجتماع بمفهومه الحديث. ودور كهايم هو عالم اجتماعي فرنسي ولد عام (1858-1917) في مقاطعة لوترنغن في فرنسا, أي بعد مضي سبعة أشهر على وفاة (أوجست كونت), وقد تأثر كثيرًا بمدرسيه وباتجاهاتهم العقلانية والوضعية, وكان وضعيًا أكثر منه عقلانيًا, وبعد أن اجتاز الامتحان عمل أستاذًا ثانويًا ثم سافر إلى ألمانيا عام 1885/1886, وتعرف على المفكرين الألمان في تلك الفترة مثل (غوستاف شمولر), و(فليهلم فونت) صاحب نظرية سيكولوجيا الشعوب، ولكنه ظل متحفظًا تجاه علماء الاجتماع الألمان الذين أخفقوا في تطوير دستور ديموقراطي كما في فرنسا كما تعرف على العالم الاجتماعي (تونيز) وقد ترك ذلك أثرًا على كل أعماله.
اهتم (دوركهايم) بالفنون والفلسفة الوضعية (لأوجست كونت) وترعرع وتربى في ظل تقاليد عصر التنوير حيث تأثر بالاضطرابات السياسية والاجتماعية التي عاصرها في المجتمع الفرنسي في شبابه، واستطاع المفكر (دوركهايم) مع مجموعة من أصدقائه إصدار أول مجلة اجتماعية في باريس، كما ألف العديد من الكتب في مجال علم الاجتماع وأهمها وأشهرها كتاب قواعد المنهج في علم الاجتماع، وكتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية، وكتاب الانتحار، وكتاب تقسيم العمل في المجتمع. ولذلك فإن دراسة (دوركهايم) للانتحار تعد نموذجًا للتحليل السوسيولوجي المتعدد المتغيرات، فيما تعتبر دراسة قواعد المنهج في علم الاجتماع بمثابة النقد الميتودلوجي المنهجي للعلوم السابقة ومحاولة لتأسيس علم الاجتماع الوضعي, مع الإشارة إلى أنه في كتابه قواعد المنهج في علم الاجتماع وضع الأسس والدعائم والقواعد التي يجب على الباحث الاجتماعي الاعتماد عليها في دراسته للظواهر الاجتماعية.
وفي كتابه تقسيم العمل، ناقش (دوركهايم) مفهوم التضامن، وصّنف المجتمعات الإنسانية من ناحية التضامن إلى نمطين، الأول ويشمل المجتمعات البسيطة ويسودها،( التضامن الآلي). والذي يشير إلى تماسك اجتماعي من نوع عالٍ جدًا وتقسيم عمل بسيط وشعور جمعي بين الأفراد يكون قويًا، وكذلك يتعرف أفراد ذلك المجتمع ويفكرون بشكل متشابه ومتماثل إلى درجة عالية، أما النوع الثاني من التضامن، أطلق عليه دوركهايم (التضامن العضوي) والذي يعبر عن تماسك أقل من الآلي وكذلك في الشعور الجمعي, ويظهر في هذا النمط من المجتمعات مبدأ تقسيم العمل بشكل واضح ومعقَّد، وهذا التضامن يمثل سمة من سمات المجتمعات المعقدة والصناعية الحديثة، يستمد أسسه من التباين بين الجماعات الاجتماعية داخل المجتمع, ولذلك فإن النوع الأول من التضامن يربط الأفراد مباشرة بالمجتمع من دون أي وسائط، بينما النوع الثاني من التضامن يعتمد على المجتمع لأنه يعتمد على الأجزاء التي يتركب منها.وفي الإطار الأخلاقي و والتربوي
جعل دوركايم المجتمع مصدر كل سلطة أخلاقية، إذ يقول: (إن المجتمع هو النموذج والمصدر لكل سلطة أخلاقية)، وحدد أخلاقية الفعل من خلال السمو عن الغايات الذاتية والتفاني من اجل المجتمع، فيقول( أن المرء لا يسلك سلوكاً أخلاقياً إلا حين يستهدف غايات تسمو على الغايات الفردية ، وحين يتفانى من اجل كائن ارفع منه ومن كل ما عداه من الإفراد، وما دمنا قد حرمنا على أنفسنا الاستعانة بالأفكار اللاهوتية فلن نجد كائناً معنوياً واحداً يسمو على الإفراد ويمكن ملاحظته تجريبياً، سوى ذلك الذي يكونه الأفراد عند اجتماعهم، وأعني به المجتمع). فالمجتمع من وجهة نظر دوركايم يمتلك سلطة علينا، وان أوامره واجبة التنفيذ، وان التقاعس عن أدائها يؤدي إلى شعورنا بالألم ووخز الضمير، ولا يجوز للفردية عنده أن تحسب بحال من الأحوال أن من حق الـ(أنا) أن تقدر قيمتها من غير اعتبار للقيم الاجتماعية ومراعاتها، وفي هذا يقول دوركايم (حين يتكلم الضمير فالمجتمع كله يتكلم فينا).
وترى الظاهرة الدوركهايمية أن قواعد الأخلاق تفُرض على الإفراد داخل نطاق مجتمع معين، وهم مجبرون على التزام هذه القواعد حتى لو لم يرق لهم، ولقد نشأت هذه القواعد لتنظيم علاقات الأفراد من دون نظر إلى أهوائهم الشخصية، ولا يستطيع الأفراد الانحراف عن القواعد التي رسمها لهم المجتمع ألا في الحالات الشاذة.و لا ريب يّعد (دوركهايم) أحد دعائم الحركة العلمية في النصف الآخر من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهو من أكثر العلماء البارعين الذين أثروا معطيات علم الاجتماع الحديث, وزعيم المدرسة الفرنسية الوظيفية لعلم الاجتماع التي لا تزال قائمة حتى وقتنا المعاصر رغم مرور 100 عام على رحيله.
... ... ...
- المرجع/ كتاب علم اجتماع البيئة للمؤلف: خالد محمد الدوس