محمد آل الشيخ
هناك علاقة عكسية بين الوعي من جهة وبين التزمت والراديكالية من جهة أخرى، فكلما زاد الوعي اضمحل التزمت ومعه التشدد، والعكس صحيح. ما أقوله أصبح حقيقة ترقى لأن تكون حقيقة مطلقة، لا يرفضها إلا مكابر، أو هو مستفيد من جنوحه نحو التطرف والراديكالية. الناس اليوم ليسوا كما كانوا في الأمس، وبالذات في التفريق بين ما هو ثابت دينيًا لا يتغير، وبين الأمور التشريعية المتعلقة في الأمور الدنيوية التي تواكب التغيرات، والتي أصبحت علمًا، يعرفه المتخصصون، والراسخون في علم هذا التخصص. وليس لدي إطلاقًا أي اعتراض على من يتشدد في الدين، ويبحث عن التطرف في رأيه حتى ولو كان الشاهد والدليل على قوله ضعيفًا، أو محل خلاف معتبر، فطالما أنه مقتنع به فليطبقه على نفسه، ولكن متى ما طالب بفرضه على الآخرين، واعتبر هذه المسائل الخلافية هي بمثابة المعلوم من الدين بالضرورة، فهذا ما لا يمكن قبوله، لا سيما في المسائل التي يدور حولها خلاف، أو في المستجدات الدنيوية، التي تفتقر إلى الدليل القاطع، ونادى بتحريمها دونما دليل، أو أنه اعتمد على دليل قياسي يفتقد إلى التماثل. فمثلا حديث: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) أقبله إذا كان في قضايا العبادات والعقيدة، أما إذا كان الأمر يتعلق بمسائل الدنيا، وبالذات ما فيه مصلحة وفائدة للمجتمع فهذا مرفوض عقلا وشرعا، وكثير من المستجدات، هي في المعنى اللغوي تدخل في مصطلح (بدعة)، ولم يعرفها السلف في الماضي، ولا يمكن ألبتة لي أن أرفضها، وحمل الناس بالقوة على رفضها لمجرد أنها لم تكن معروفة في حياة السلف الصالح، إلا إذا كنت تعيش في دولة داعش، أو طالبان.
وأنا ممن يؤمنون إيمانًا عميقًا بأن الإسلام وتعاليمه الآمرة هي من (الثوابت) إذا تعلقت بالعقيدة والعبادات، أما إذا كانت متعلقة بالمسائل الدنيوية، فالمنطلق في القبول والرفض يتمحور حول مدى تحقيقها لمصالح الناس، ولا يمكن أن يأتي طالب علم شرعي مهما علا قدره وارتفع شأنه ليفتي في الاقتصاد والتعاملات البنكية أو العلاقات الدولية مثلا، وهو ليس من أهل العلم والمعرفة فيها، فهو هنا ليس من أهل التخصص الذي طلب جل وعلا بسؤالهم إذا تعذر علينا العلم بناء على قوله: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، فالرسول -مثلا- طلب مشورة سلمان الفارسي عندما اقترح حفر خندق حول المدينة في غزوة الخندق، فأصبح سؤاله صلى الله عليه وسلم بمثابة سؤال (أهل الذكر)، رغم أن الرسول يتلقى الوحي من السماء، لكنه أراد أن يضرب مثلا في سؤال أهل التخصص والخبرة في المسائل غير الدينية، ليقتدي به المسلمون في أمور دنياهم.
ومن واقع رصد تاريخ مجتمعنا خلال العقود الأربعة الأخيرة التي أصبح فيها الغلاة والمتشددون هم من يفتون في القضايا الدنيوية، كالمسائل الاقتصادية المعقدة، وقضايا العلاقات الدولية، حتى أصبحوا يسألون عن (الفياجرا) هل تناولها حلال أو حرام، بل تمادى آخرون واقتحموا الطب، واعتبروا أن الطب في العصر النبوي والأدوية البدائية التي كانوا يستخدمونها في تلك الأزمان، يجب أن تكون نبراسا لنا في علاج ما يصيبنا من أمراض وأوبئة، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث طبيبا بشريا، وإنما بعث لتصحيح العقيدة.
وليس لدي أدنى شك أن وسائل التواصل على الإنترنت بكل أنواعها، كان لها دور كبير في توعية النشء، وتثقيفهم من حيث لا يشعرون، الأمر الذي حاصر التطرف والمتطرفين، كما أنه -وهذا هو الأهم- كشف المحتالين، الذين جعلوا من الدين والحلال والحرام والوعظ تجارة يمارسونها لتحقيق ثروة هي بكل المعايير والمقاييس ضرب من ضروب المال الحرام.
إلى اللقاء.