م. بدر بن ناصر الحمدان
حتى الآن لا يمكن القول إن مدينة سعودية واحدة على الأقل استطاعت أن تنتقل من مرحلة «النمو» إلى مرحلة «التنمية» تحديداً على المستوى العمراني، فعلى مدى أكثر من تسعين عاماً ومنذ أول تنظيم للبلديات في المملكة عام 1345هـ مروراً بتأسيس وزارة الشؤون البلدية والقروية عام 1395هـ وحتى هذا اليوم، وبالرغم من الجهود الحثيثة التي بذلت إلا أن المدن السعودية ما زالت في موقف حرج وتواجه تحديات كبيرة أمام قدرتها على التحكم بإدارتها العمرانية نتيجة النمو المفرط والتوسع المستمر في إنشاء تجمعات عمرانية جديدة من أجل مواكبة التزايد المضطرد في عدد السكان، مما أدى إلى تدهور واضح في بيئتها الحضرية وتدني مستوى الخدمات في تجهيزات البنية التحتية الأساسية وأسلوب إدارتها وتشغيلها وصيانتها.
أهم مشكلة تواجه المدن السعودية منذ عقود تكمن في نموذج «إدارتها المحلية»، فمنذ بداية الخطة الخمسية الأولى للدولة عام 1970م، لم تظهر هذه المنظومة الإدارية «عملياً» كجهاز ذي شخصية اعتبارية وما تعنيه من استقلالية إدارية ومالية ورقابية تُمكِّن من صناعة واتخاذ القرار «الموحد» في شؤون الإدارة العمرانية التي عانت من ازدواجية كبيرة على مستوى التخطيط والتنفيذ والإشراف والمتابعة، بل توزعت مسؤولياتها على هيئة كيانات إدارية «منفردة» يتبع كل منها لقطاع مختلف ويضطلع بخطط وإستراتيجيات مستقلة، مما أدى إلى ضعف مستوى التنسيق وما يرتبط به من وظائف عمرانية تكاملية. لذلك فالمسؤولية مناطة بكل أجهزة الإدارة المكانية وليست البلديات وحدها.
تجربة الإستراتيجية العمرانية الوطنية التي أقرت عام 1421هـ، كانت محاولة جادة لتقديم نموذجاً فريداً في تحقيق التنمية العمرانية المتوازنة لمناطق المملكة حتى عام 1450هـ، لكنها تحولت إلى مثال حي لعدم قدرة المدن السعودية على التحكم في إدارة التنمية الشاملة، وتنسيق الخطط التنفيذية والتشغيلية القطاعية للجهات الحكومية المختلفة، وهذا ما جعل كثير من تلك القطاعات تعمل بمعزل عن هذه الإستراتيجية وخارج أطرها التنظيمية طوال الفترة الماضية. لم يعد من المقبول أن نستمر في استخدام نفس الأدوات والحلول التقليدية لإدارة المدن السعودية وفق النموذج القائم، الذي حتماً لن يتمكن من ترجمة رؤية السعودية 2030م وتحويلها إلى برامج ومشروعات مستقبلية في ظل الالتزام بأن تكون المملكة من أفضل دول العالم في الأداء الحكومي الفعّال لخدمة المواطنين. فالبيئة الإدارية والتنظيمية في كثير من القطاعات المسؤولة عن تنمية المدن ما زالت تمر بمسارات مُعقّدة ومُقيّدة وغير مرنة، وباتت حاجتها ملحة إلى مراجعة كثير من أنظمتها المتقادمة واختزالها وتطويرها.
المدن السعودية مطالبة -وبصفة عاجلة- باستثمار مناخ التغيير المرن الذي تقوده الدولة في الفترة الحالية على مستوى إدارة التنمية والإصلاح الإداري، وأن تعمل على توظيف ميزها النسبية والتنافسية، وأن تكون أكثر جرأة وثقة في مناقشة واقعها وتشخيص مشاكلها، ومن ثم تبني حلولٍ إدارية وعمرانية متطورة ومبتكرة تُمكّن من تسيير هذه المدن بمنهجية احترافية، فالفرص لا تُتاح دائماً، والمستقبل لا ينتظر أحداً.