د. جاسر الحربش
المشكلة بين تركيا وأمريكا أعمق من الليرة والدولار وفتح الله غولين والقس الأمريكي. إسرائيل قتلت في سفينة الإغاثة التركية إيمرلي عدداً كبيراً من الركاب الإغاثيين بينهم مجموعة من الأتراك، وإيران اعتقلت كامل طاقم السفارة الأمريكية في طهران وسجنتهم لأكثر من ثلاثمائة يوم. الحكومة التركية
(حكومة أردوغان) اكتفت بقبول الاعتذار الإسرائيلي وأعادت العلاقات بأنواعها كافة التي بالأساس كان قطعها صورياً، أما أمريكا فبلعت الإهانة الإيرانية رغم قسوتها وتعاونت مع حكومة إيران فيما بعد لتدمير العراق وتفكيكه. الضجيج الأمريكي الحالي حول إيران محاولة احتواء وترويض وليست محاولة كسر اقتصاد وتركيع.
ليس من طبائع السياسات الثبات على مبدأ أخلاقي يمكن استعماله لقياس المواقف، لكن التاريخ الحضاري القديم، أي الذاكرة التاريخية الحضارية تبقى المركز الذي تدور حوله التقلبات المرحلية في السياسة والقرار النهائي. لدينا في أمريكا رئيس عنيف من الواضح تركيزه على شعار المجد لأمريكا. المهم له أن يتحقق المجد أثناء رئاسته هو لأنه يعتبر نفسه أعظم رئيس في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. أما إيران فكانت دائماً خارج هذه الذاكرة.
بالمقابل لدينا في تركيا زعيم نرجسي عنيف آخر، من الواضح تركيز طموحه على إحياء المجد لتركيا العثمانية الطورانية الإمبراطورية، ومكان المسلمين الآخرين يكون كالماضي، في الملاحق الخلفية كجنود وأتباع ورعايا في خدمة الإمبراطورية القادمة. الشبه في النرجسية واضح بين الرئيسين، والعنوان الكبير لكل شخصية مصابة بالنرجسية هو: إن لم تكن معي، مقتنعاً بما أراه وأقوله وأخطط له، فأنت غبي أو عدو يجب التخلص منه. الرئيس الأمريكي الحالي ضحى خلال سنتين بأكثر من مائة وستين شخصاً من موظفيه وطواقمه ومقربيه، بحيث لم يتبق له غير المقتنعين بحق أمريكا في تركيع الجميع لصالح الدولة التي ليس كمثلها بلاد ولا مواطنون. كل رجل أو امرأة يجرؤ على التشكيك يطرد خارج الخدمة الرئاسية وبشكل يومي.
الرئيس التركي الحالي تنطبق عليه نفس المواصفات النرجسية مع فارق القوة بين الدولتين ودورها في عنف التصرف. نرجسية الرئيس التركي جعلته يتخلص من أساتذته القدماء ومن أعز أصدقائه وزملائه في الحزب، وجعلته يتقافز دورياً بين رئاسة الوزراء ورئاسة الدولة إلى أن اكتملت له السيطرة الإعلامية والسياسية والاقتصادية فغير الدستور وجمع الرئاستين. الوضع الدستوري القديم في تركيا كان يتيح للأتراك مجالاً أوسع لتوزيع الصلاحيات وتحجيم احتكار وشخصنة القرارات، وذلك هو ما أتاح للرئيس التركي الحالي تبديل الأدوار والبقاء، مرة كمعارض ومرة كمشرع، ثم قوض هذه الميزة الدستورية وجمع كل الحبال في يده.
لكن ما هو الوضع العربي برمته وكامله داخل هذه المعركة بين نرجسيتين فتاكتين؟. حسب رأيي المتواضع هو وضع الإنسان قليل الحيلة بين البلاء والابتلاء. بيننا من يتعاطف مع البلاء ومن يتعاطف مع الابتلاء، وكلاهما متنكر لأصوله وحضارته.