د. حمزة السالم
من مشاركتي بمؤتمر فينيا للاديان «طريقة معالجة الاجتهادات البشرية -التي تختص بالمعاملات- في الإسلام السني، تختلف عن طريقة معالجتها في الأديان والمذاهب الأخرى. فالمرجعية الدينية، وإن كانت في الأديان السماوية الأخرى والغير سماوية والمذاهب بأشكالها، عبر العصور السابقة تدعو للقتال والدماء تبعا لمصالح السياسيين وأهل القوى، إلا أنها اليوم قد أصبحت وسيلة فعالة لنشر الأخلاق الإنسانية، بعد أن أُبعدت المرجعيات عن السياسة والنفوذ والتدخل في معاملات الناس، واقتصر دورها على الروحانيات.
بالنسبة للاسلام السني فهو واضح إذا ما رجعنا إلى نصوصه الشرعية الثابتة في الكتاب والسنة. فهو دين يسر وفطرة لا دين تشديد وتحريم. ولو رجعنا إلى هذه النصوص، وفسرناها وفهمناها تحت ضوء أفعال الرسول وأصحابه الكبار، لوجدنا أنه في باب المعاملات أن المحرمات والأوامر في الإسلام التي أُمر بها أو حُرمت لذاتها، هي أمور محدودة وجميعها يدور حول تحقيق مكارم الأخلاق التي اتفقت عليها الإنسانية، كتحريم القتل والزنا والعدوان ونحو ذلك. وأن ما عدا ذلك فهي محرمات من باب تحريم الوسائل الموصلة إلى المحرمات لذاتها. وهذه الوسائل يدور حكمها بالوجوب أو التحريم بوجود ذريعتها وزوالها. فحكم الأمر في الوسيلة يزول بزوال ذريعتها، مثاله: كالأمر بتقسيم (الأنفال) الغنائم الحرب قد جاء صريحا في سورة كاملة من أعظم سور القرآن ومات عليه نبي الأمة وخليفته أبو بكر وأبطل العمل به الخليفة الثاني الفاروق عمر لزوال ذريعته، والأمر بتوزيع الأنفال وسيلة للجهاد والجهاد وسيلة إلى غاية حماية المجتمع ونشر الدعوة.
ومن ذلك أحكام الجهاد ونحوها مما يتخذه المتطرفون حجة لهم، فهي من باب الوسائل التي تزول أحكامها بزوال أسبابها. وقد زالت اليوم ذرائع الجهاد بوجود المجتمعات المدنية والحوار، وبوجود الاتصالات. فالجهاد وسيلة لا غاية. فهو وسيلة لتبليغ الدعوة بالإسلام كما أنه وسيلة لحفظ المجتمع المسلم من العدوان. فهو في الأول وسيلة هجومية وفي الثاني وسيلة دفاعية. وكلا الذريعتين اليوم، الحاجة للقوة لإيصال الدعوة والدفاع عن المجتمع الإسلامي لا وجود لهما.
إن التشدد والعدوان والتحريم في الإسلام جميعه مرجعه في الغالب إلى آراء شخصية من الفقهاء سايرت المجتمع أو سايرت سياسة خلفاء، أو كانت من أجل أيجاد سوق لصنعة الفقه التي ازدحمت بالفقهاء. وبالتخلص منها تعود الأحكام الإسلامية التطبيقية العملية لأصلها الذي جاء بها نبي الرحمة، مناسبة لاختلاف نوعيات الناس وميولهم ونفسياتهم بكونها جاءت محصورة بين أقصى الكمال لمن يجد في نفسه تدينا ورهبة وأقل الجهد لمن يجد في نفسه عجزا وضعفا. فأقصى الكمال هو أن يكون تعبد المسلم ومعاملاته كتعبد نبي الإسلام ومعاملاته والتي هي في قوله عليه السلام «صلوا كما رأيتموني أصلي» و«خذوا عني مناسككم».