د.محمد بن عبدالرحمن البشر
لقد أتم الحجاج حجهم بحمد لله، استشعروا ذلك الركن العظيم، ووقفوا بباب الكريم، سائلينه النعيم، وقفوا بعرفة مهللين مكبرين، ورافعين الأكف متضرعين، قلوب ملأها الإيمان، تواقة إلى الجناب، والرحمة من الرحمن، ألسنة تلهث بالدعاء، وكلها رجاء، أن يحيط بها العفو يوم اللقاء، وأن يمنحهم الله جزيل العطاء، موقنين أن أبواب الله مشرعه، والدروب إلى رضاه واسعة، وأمره بين الكاف والنون، كما أخرج يونس من بطن النون.
سيعود ذلك الجمع الكريم، وكلهم أمل أن يعودوا -بإذن الله- مثل ما ولدتهم أمهاتهم، نفوس زكية، وخلال نقية، وقلوب من الأحقاد خلية، إلى الخير سباقون، وعن الشر والأذى مبتعدون، وقد تعلمون أن النفس من خيرها في خير عافية، والنفس من شرها في مرتع وخيم، وهم يعلمون أن النفس كالطفل إن تتركه شب على حب الرضاع وأن تفطمه ينفطم، ولهذا فإن هذه الجرعة الإيمانية العظيمة هي قادرة -بإذن الله- إلى تجديد الذات وتغيير ما قصر فيها، وتصحيح مسارها إن كان غير سوي، وإزالة ما بها من شوائب ربما تراكمت في غفلة مع مرور الأيام.
أصعب ما يمكن أن يواجهه المرء هو الصراع مع الذات، وهو صراع محموم، لاسيما بين ذلك الموروث الجيني والثقافي، وبين التأثير التربوي الذي يتعلمه المرء ذاته، وليس الموروث، وهنا تتجلى تلك الدفعة الإيمانية الكبيرة التي يضخها الحج في الأفئدة، لتقوم الذات بإنصاف محض، دون إيجاد مبررات للسير في ذات الدرب.
هناك من كان مغالياً، أو من ناوشه الغلو بين فترة وأخرى، بتأثير مغرضين أو حاقدين أو جاهلين، فيصاب بشيء من الضعف تارة، وهنا وبعد إتمام الحج الأكبر، لا بد أن تنجلي أمامه الحقيقة، وتنبري بين يديه أسباب الحسم بالبعد عن تلك التيارات الظلامية الضارة بالنفس البشرية، وبالدين، والمجتمع، والعالم أجمع. سيعود هذا الجمع الصادق في إيمانه إلى الأمصار في العالم، وقد امتلأت قلوبهم بالإيمان، وتدثرت بلباس من التعليم الإسلامي القويم، ليشاركوا في بناء أوطانهم بكل جد واجتهاد، ليثبتوا للعالم أن الدين الإسلامي دين بذل وعطاء، وعلم يعانق عنان السماء، سيكون لهم تأثير أكبر في إرساخ مفاهيم الإسلام الحقيقي الذي يدعو إلى المحبة والسلام والخير، ومحبة الغير، دين يدعو إلى التسامح، والسعي والتصالح.
كان الناس قبل الإسلام، يحجون إلى البيت الحرام بطريقتهم الخاصة، لأنهم يعلمون عظم ذلك المكان وجليل حرمته وهكذا قال عبدالمطلب بن هاشم «للبيت رب يحميه»، فهو جليل عظيم عند الله، حفظه الله آلاف السنين قبل الإسلام، وبعد الإسلام، وإلى أن تقوم الساعة.
لقد وفرت المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين وولي عهد الأمين -حفظهما الله-، كل سبل الراحة والأمن، فتم الحج على أكمل وجه في راحة وطمأنينة وأمن، سوف يعود الحجيج وقد امتلأت قلوبهم بالإيمان، وبما ارتسمت في أذهانهم من صور رائعة لذلك المكان، وتلك الخدمات ليتحدثوا عنها، ويبلغوا ذويهم بما رأوا وشاهدوا من أفعال خير، وترتيب وتنظيم، سوف يعودون وفي أذهانهم ذلك التنقل الميسر بين الشعائر، وذلك البذل الذي ليس له حدود الذي تقوم به المملكة.
ستكون هذه الشعيرة العظيمة، مرسومة في الذاكرة لا تفارق صاحبها، وهي حافز إيماني مستمر عندما تضعف النفس لسبب أو لآخر.
الآن وقد انتهى موسم الحج، فإن القائمين عليه سيبدأون العمل والتحضير للسنة القادمة، عمل متواصل، وجهد متكامل، تسابق لشرف الخدمة، دون تباهي أو منه.
أعاد الله حجاج بيته إلى ديارهم سالمين غانمين، وحفظ الله هذه البلاد من كيد الكائدين، وحفظ لها قادتها، وأدام عليهم الصحة والعافية والتوفيق.