د. جاسر الحربش
المقصود هنا بالشعوب الغيبية هي تلك التي تبقى عقلاً في الماضي وتعيش جسدياً في الحاضر وتصر على صراع البقاء بوسائلها القديمة.
بداية سأحاول تبسيط مفهوم الذكاء الاصطناعي وما يعنيه للإنسان في المستقبل القريب، لعل ذلك يساهم في تنبيه الذين يعيشون في عالم الغيبيات المذكورة أعلاه. يحتوي دماغ الإنسان على حوالي كيلوجرام ونصف من المادة العصبية، تؤدي الكتلة الأكبر منها واجبات تلقائية بدون تفكير، مهمتها تنظيم وظائف القلب والدورة الدموية والتنفس والحركة الروتينية والنوم والغرائز والعواطف وتناول الطعام والشراب إلى آخر الوظائف الحيوية المدمجة في البرامج التلقائية البشرية كما خلقها الله. هذه الكتلة الأكبر من الدماغ لا علاقة لها بالتفكير لكنها تكون على الأقل تسعة أعشار الكتلة الدماغية. العشر الباقي يتشارك فيه العقل والفهم والاستنتاج ولا يستغل منه الإنسان المتوسط الذكاء سوى جزءاً يسيراً، يزيد قليلاً عند فائقي الذكاء لحل المسائل والمشاكل المقعدة والتعامل القيادي مع المفاجآت.
الآن تخيل دماغاً اصطناعياً بالكامل وزنه كيلوجرام ونصف من رقائق الكمبيوتر والتوصيلات لا يحتاج إلى قلب ولا أكسجين ولا نوم ومجرد من العواطف، لكنه مشحون بملايين البرامج والتطبيقات والعلوم والمعادلات بطريقة متداخلة تحفيزية تبادلية تستجيب للسؤال والطلب والأمر للقيام بالمهمات المستحيلة على القدرات البشرية العقلية والجسدية. هذا الدماغ الآلي يسمى «روبوت» اشتقاقاً من كلمة تعنى عامل السخرة، وهذا الدماغ إن ركب على آلة تشبه الجسد البشري سمي روبوتاً بشرياً ويمكن دمجه في صاروخ أو دبابة أو كاسحة ألغام أو تراكتور أو حراثة زراعية، وكذلك يمكن وضعه في ركن صغير من مختبر كيميائي أو طبي فتصبح كل الأجهزة الميكانيكية القديمة للتحاليل مجرد تجميعات معدنية وبلاستيكية لا لزوم لها وقليلة الفائدة.
هذا الدماغ المشحون بالذكاء التجميعي يستطيع إنجاز الأداء الفكري لآلاف الأدمغة ويقدم حسب الطلب الخطط والحلول والأفكار الجديدة للتعامل مع المستقبل، وهذا هو الذكاء الاصطناعي الذي قطع العلم المتقدم في بلدانه أشواطاً واعدة ومخيفة في نفس الوقت، وذلك في نفس الزمن الذي لم تصل فيه بعض المجتمعات إلى صناعة المحرك الميكانيكي دون مساعدة خارجية.
الذكاء الاصطناعي يستطيع تشخيص المرض بتحليل هواء التنفس أو قطرة لعاب فوراً ويقترح العلاج، ويتنبأ بدقة متناهية بالأحوال الجوية على المدى الطويل للإنتاج الزراعي، ويقدم وصفات تجدد خلايا الإنسان وتصحح الأخطاء البيولوجية وتعيق الشيخوخة وتطيل العمر، وكل ذلك بتدبير الخالق الذي علم الإنسان ما لم يعلم.
العالم المتطور مقبل خلال عقدين من السنين أو نحوها على الاستغناء عن الاعتماد على العقل البشري المحدود، لتدخل البشرية في مسار متسارع جديد تماماً من التطور والتنافس بطريقة الذكاء الاصطناعي. لتيسير توقع المستقبل في عصر الذكاء الاصطناعي يتوجب الإلمام بتاريخ التطور البشري من بداياته حتى العصور الحديثة.
عاش الإنسان القديم في مرحلة الكهف والصيد العشوائي والتقاط الثمار لآلاف السنين، وهذه المرحلة تسمى عصور إنسان الكهف البدائي. قبل عشرة آلاف سنة فقط بدأ عصر الزراعة والاستقرار في تجمعات، ثم تبعه عصر أفران الطين والتعدين البدائي، واستمر الإنسان في تلك العصور إلى عام 1784م، أي نهايات القرن الثامن عشر. قبل مائتين وثلاثين سنة فقط من آلاف السنين للتطور البشري حل عصر الآلة العاملة بالطاقة المحبوسة الموجهة، بدءاً بالبخار والفحم الحجري لتشغيل آلات النسيج والقطارات والبواخر، ثم جاءت الكهرباء لتتواصل المسيرة بسرعة أكبر حتى الوصول إلى العصر الرقمي الإلكتروني الذي نحن فيه. خلال قرنين وربع من الزمن قطع التطور أشواطاً تزيد آلاف المرات عن كل الأزمنة السحيقة.
المخيف القادم هو وجود شعوب لم تدخل بعد عالم الثورة الصناعية، أي عصر التحكم الميكانيكي بالطاقة والآلة المصنوعة محلياً باستعمال الذكاء المحلي الخاص وتستورد منجزات التطور الحديث لكنها ما زالت تعيش في عصر الفلاحة ونار الحطب والرعي الموسمي. هذه الشعوب أصبحت فعلياً مهددة بالانقراض حسب المخرجات المتوقعة لبرامج الذكاء الاصطناعي المبرمجة على حذف وإلغاء ما لا لزوم له لثبوت ضرره على البيئة والأهم بسبب المنافسة على الأرض والثروات.
من هذا الفهم للذكاء الاصطناعي أعترف بدون مجاملة ولا نفاق أنني تفاءلت عندما سمعت وقرأت لأول مرة عن برنامج مشروع نيوم الوطني للذكاء الاصطناعي، وأملي الكبير هو أن يكون الإشراف البرامجي عليه والتعامل معه من الأولويات المحلية الوطنية.