د. جاسر الحربش
العقول الحرة هي تلك العقول التي لديها جهاز مناعة ذاتي يحيد بكفاءة عالية وأولاً بأول كل الخلايا المبرمجة خارجياً أو داخلياً على إنهاكه وإحباطه، وفي نفس الوقت يتقبل ما ترسله مخرجات العقول الحرة الأخرى من آراء وتساؤلات وملاحظات بسعة صدر وتشجيع.
النظام الشيوعي السوفياتي استطاع تحويل روسيا من دولة فلاحين وإقطاعيات وأقنان إلى قوة نووية عظمى وحقق الخطوة الأولى في غزو الفضاء ونشر كوادره للتبشير بالأخوة الأممية في أقصى بقاع الأرض، لكنه سقط وتلاشي بسرعة مدهشة وبدون مقاومة شعبية أو عسكرية. لماذا كسب العالم الرأسمالي المضاد السباق بدون الدخول مع الاتحاد السوفييتي في حروب مباشرة، وما الذي كان ينقص المواطن السوفييتي للاستماتة في الدفاع عن نظامه ودولته؟.
نظام المرحوم صدام حسين نشر التعليم الإلزامي في كل ركن ونجع من العراق وأنار الأرياف المظلمة بالكهرباء وحقق نهضة علمية نموذجية وشيد الجامعات والمستشفيات والجسور والوزارات والطرق التي ما زالت هي الوحيدة الصالحة للاستعمال بعد الغزو الثلاثي الأمريكي البريطاني الإيراني. في أول أيام الغزو تنبأ صدام حسين بانتحار الغزاة على أسوار بغداد، لكن بغداد سقطت ولم ينزل العراقيون إلى الشوارع بالملايين للدفاع عن عاصمتهم، بل نزلوا يهدمون وينهبون ويهتفون بسقوط النظام والرئيس. لماذا حدث ذلك، وما الذي كان ينقص المواطن العراقي للاستماتة في الدفاع عن نظامه ووطنه؟.
نظام المرحوم جمال عبدالناصر عمم التعليم المجاني وأمم قناة السويس وشيد السد العالي لتحقيق الأمن المائي والكهرباء لمصر ووزع الأراضي على الفلاحين، ثم سقطت آلة النظام العسكرية الضخمة خلال أسبوع وبعد ذلك تلاشى النظام تدريجياً بكل فعالياته، لماذا حدث كل ذلك بهذه البساطة؟.
حكم المرحوم الرئيس هواري بو مدين قطع شوطاً كبيراً في استعادة الهوية الوطنية التاريخية للجزائر وأعاد التعريب في التعليم وأمم الصناعة النفطية وطرد عملاء الاستعمار من الجزائر. بعد وفاة الرئيس بو مدين تخلخلت الأوضاع ونشبت الحروب الأهلية وأصبحت الجزائر ذات الثروات الطبيعية الهائلة تعاني من الفقر والشلل الخدماتي والقلق. لماذا لم يبق من الإرث البو مديني شيء يذكر في الجزائر؟.
في كل الحالات المذكورة، السوفييتية والعربية بالإضافة إلى أمثالها التي حصلت في إندونيسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية كان السبب واحداً، هو شعور المواطن في تلك الأنظمة بانخفاض سقف الحريات المتاحة للعقول الحرة للسؤال وإبداء الرأي بدون التعرض للمساءلة والعقاب. في الاتحاد السوفييتي ومصر الناصرية والعراق البعثية والجزائر البو مدينيه كانت الإنجازات المادية واضحة ومقنعة، لكن الإنجاز الأهم للنهضة الوطنية المستدامة، الذي هو الإحساس الحقيقي بمسؤولية المشاركة الحرة في صنع المستقبل كان هو الطرف الغائب في معادلة النهضة الوطنية.
في تلك البلدان كان الإعلام بكامله في قبضة السلطات وكان المواطن السوفييتي، المصري، العراقي، الجزائري يخاف حتى وهو بين أصدقائه ومعارفه وأهل بيته من إطلاق كلمة غير محسوبة وبحسن نية، ثم يختفي حسب نظام العقوبات المطبق إما بالحبل في الزنزانة أو بالتذويب في حوض الأسيد.
الذي اتضح بعد سقوط النظام الشيوعي والناصري والبعثي وجبهة التحرير الوطنية الجزائرية (التي لم يبق منها سوى الاسم) أن الأنظمة في تلك الدول لم تنتبه إلى أهمية تشجيع العقول ومشاركة العقول الحرة والمستعدة للتضحية دفاعاً عن المنجزات المادية والأوطان. العالم الرأسمالي بكل مساوئه الاستغلالية وتلاعبه المستمر بالدول الضعيفة كسب السباق لأنه في الداخل، أي داخل مجتمعاته نفسها زاوج بين الحريات المسؤولة والشفافية الإعلامية لتحقيق النهضة المستمرة.
لا شك أن الحماس والاستعداد للتضحية هما الابنان الشرعيان لمساهمات العقول الحرة في النهضة الوطنية.