حمّاد السالمي
* لست أنا ولا غيري من يستطيع الإحاطة بما للحج عبر تاريخه الطويل من طرائف ومواقف. الحج قصة روحية إنسانية عظيمة قائمة ومتطورة منذ أربعة عشر قرنًا، وفي كل مرحلة من مراحلها الطويلة؛ تتطور وتزداد رفعة وعظمة. أقول هذا وأنا أتابع مع ملايين المسلمين؛ مرحلة إتمام حج هذا العام 1439هـ بفخر واعتزاز، راح كل منا يهنئ الآخر بنجاح الحج وعودة أكثر من مليوني مسلم إلى أهلهم وديارهم سالمين غانمين. جهود بلادنا في إدارة الحج؛ أضحت مضرب المثل في شتى أنحاء العالم.
* لهذه الفرحة وهذه التهاني؛ أصول وجذور تاريخية، أدرك البعض منا بقايا منها. كنا ونحن الأقرب لبيت الله الحرام- فكيف بالأبعدين- نودع حجاجنا بالدموع، ونستقبلهم بالدموع، على هاجس تاريخي قديم يقول: (الذاهب للحج مفقود، والعائد منه مولود) و(ما فيه حج وسلامة). ذلك أن تاريخ الحج عبر عصوره ودهوره؛ ليس هو الذي نعيشه اليوم، من وسائل نقل سريعة وآمنة وميسرة- برية وبحرية وجوية- ووسائط عرض ومتابعة آنية. ولا الظروف المعيشية والصحية والوقتية هي التي نعرفها اليوم، كان الناس في أزمنتهم القديمة؛ يدّخرون من قوتهم لرحلة حج العمر التي قد تستغرق عامًا كاملًا للذهاب والإياب بين جاكرتا ومكة، وبين الأندلس ومكة، ومن الشمال والجنوب عبر فيافي مقفرة، وبحار مظلمة، وكم من حجاج ذهبوا غرقًا، أو جوعًا ومرضًا، أو قتلاً على أيدي قراصنة البحر ولصوص البر، دون أن يدري بهم أحد. وهذا ليس بغريب، فرحلة الحج بين المدينة المنورة ومكة وقتها؛ كانت تستغرق 10 أيام، ومن مصر إلى الديار الحجازية 40 يومًا.
* أكثر من مرة.. شاهدت بنفسي لحظات وداع واستقبال لحجاج في مطاري جاكرتا والدار البيضاء. دموع فراق تُسكب لذاهبين، ودموع فرح تسح لآيبين، مع أن رحلة حجهم لا تتعدى أيامًا عدة. هذه لو قورنت برحلات الزمن القديم؛ لما عدت شيئًا يذكر. تصوروا رحلة حج من أقصى الشرق أو الغرب عبر الجو اليوم؛ لا تتعدى عشر ساعات، ومراسم الحج لا تتجاوز الأسبوع، فيعود الحاج إلى أهله بعد أيام قليلة وكأنه كان في رحلة ترفيهية لا أكثر، مقارنة مع أربعة وسبعة أشهر فيما مضى..! اللهم لك الحمد.
* وحتى بعد أن ظهرت السيارات قبل تعبيد الطرق وتسهيل السفر؛ كانت الرحلة بين دمشق والمملكة في بداية عهدها تستغرق 58 يومًا.. يا إلهي.. 58 يومًا.. هذا ما ذكره الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- في مذكراته ورحلته للحج. وهذه رحلة حج على السيارات؛ وليس الأرجل ولا الجمال قبلها..!
* كان الهولنديون هم من ينقل حجاج إندونيسيا إلى الأراضي المقدسة على سفنهم، وكانوا يعسكرون بجدد جدة لشهر وشهرين وأكثر، في انتظار الحجاج، ولهذا كان البحارة يزجون وقتهم، ويرفهون عن أنفسهم بلعب كرة القدم التي لم تكن معروفة في الحجاز، ومن هنا وطّنوا هذه اللعبة عندنا، كما وطّنوا الصرافة عن طريق البنك الهولندي، أول بنك تعرفه المملكة.
* ولعل دروب الحجيج البرية فيما مضى من الزمان؛ أظهر وأشهر من طرقهم البحرية، لأن المؤرخين والمجغرافيين والأدباء منهم؛ كانوا يوثقون ويسجلون مشاهداتهم في البلدان والأمصار التي يمرون بها، وهؤلاء خدموا تاريخ الحج وجغرافيته كما لم يفعل من جاء من بعدهم في عهد الطيران الذي ألغى هذه الميّزة. من أشهر دروب الحجيج في تاريخ الحج؛ درب الحاج العراقي.. درب زبيدة بين الكوفة والبصرة ومكة، ودرب حاج الشام، ودرب الحاج المصري الذي يطرقه حجاج المغرب والأندلس، ومما ذكره بعض رحالة المغرب عندما مروا بتونس؛ أنهم حطوا في مدينة (حضرموت) على الساحل التونسي..! وهي (Hadrumetum) باللاتينية، وهم يقصدون (سوسة) اليوم، التي جعلها الاستعمار (سوس Sousse)، ثم أنثت بعد الاستقلال لتصبح (سوسة)..! ما صلة هذا الاسم بحضرموت اليمن..؟ وهل للفاتحين مع عقبة بن نافع صلة بهذا..؟
* ومن جنوبي المملكة؛ كان درب الحاج اليماني، وهو شرقي وغربي، وآخر عبر السراة هو درب (العُصبة)، على أن الطائف وهي جارة مكة من الشرق والجنوب، ترتبط مع مكة بحوالي (17 دربًا جبليًا)، منها درب الثنيّة (يعرج)، الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلة الدعوة، وهو خلاف درب كرا للجمّالة. هذا الأخير؛ ذللَّه حاكم مكة حسين بن سلامة عام 430هـ، وكان وعرًا وشاقًا، فهو يستغرق في الصعود نصف يوم، وفي النزول مثلها، ولهذا عبّر شاعرهم أوانذاك على لحن المجرور الطائفي فقال:
ونّيت ونّة وأنا معطي كرا
وارتج نعمان
وارتج من ونتي كبكب
وقصر العابدية
* وهذا الطريق الأثري المدرج بالحجارة؛ سلكه الرحالة الفرنسي (ديدييه) سنة 1854م فأعجب به، وأعجب أكثر بمكونات جبل كرا وقال: (في هذا الجبل أقوام أكثر حبًا للسلم)..! وكان يقصد قرود جبل كرا التي شاهدها تتقافز أمامه، وما زالت تتقافز وتتشاقى حتى اليوم..! ومن طرائف وعجائب بعض المؤرخين في هذا الزمان؛ ظنه أن هذا هو الطريق الذي سلكه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه في رحلة الدعوة إلى الطائف في العام الثالث للبعثة، بينما هو طريق (يعرج- الثنية)، الذي يبعد عن هذا مسافة 20 كيلاً إلى الشمال تقريبًا، وجبل كرا لم يُفتح للعبور والمرور سوى مرتين. الأولى للجمّالة والمشاة عام 430هـ على يد حسين بن سلامة حاكم مكة أوانذاك، والثانية للسيارات في عهد (الملك فيصل بن عبد العزيز) -رحمه الله- عام 1385هـ، ولهذا الفتح المبين في عهد الملك فيصل؛ قصة تروى، سوف آتي عليها في الحلقة القادمة -إن شاء الله.
إلى اللقاء.