د.عبد الرحمن الحبيب
عند الحديث حول العلاقات الدولية يتركز النقاش على ما تفعله أمريكا.. فإن فعلت أو لم تفعل، فالمعتاد أنها ستواجَه بالنقد في أغلب أرجاء العالم. هذا شيء طبيعي نظراً لما تملكه من قوة عظمى متفردة غير عادية ونفوذ هائل بأنحاء العالم كافة، لكن الجانب الآخر المهم من الموضوع هو: ما الذي تفعله الدول الأخرى بشأن القوة الأمريكية؟
الإجابة التقليدية نجدها في نظرية «توازن القوى» الكلاسيكية القائمة على تعزيز الأمن القومي وتوزع القدرة العسكرية بحيث لا تكون دولة واحدة قوية بما يكفي للسيطرة على جميع الدول الأخرى.
هذه النظرية قام بتعديلها مُنظِّر الواقعية الجديدة للعلاقات الدولية كينيث والتز قائلاً إن «الوضع الحالي للسياسة الدولية غير طبيعي.. ومن الواضح أن شيئاً قد تغير».
وبدوره ستيفن والت (بروفيسور العلاقات الدولية بجامعة هارفرد) قام بتطويرها طارحاً نظرية «توازن التهديد» فتوازن الدول يتم ضد التهديدات، وليس ضد القوة وحدها.. يقول: «نظرية توازن القوى ليست خاطئة؛ بل غير مكتملة، فالقوة هي إحدى العوامل المؤثرة في التوازن جنباً إلى جنب مع القرب الجغرافي والقدرات الهجومية والنوايا المتوقعة».
والت أصدر كتاباً، في عام 2005، بعنوان «ترويض القوة الأمريكية» قدم فيه نقداً شاملاً لاستراتيجية الولايات المتحدة من منظور مخالفيها، فيما اعتبر مساهمة ثرية لمناقشة السياسة الخارجية الأمريكية.
يقول: لقد كتبت كتابًا كاملاً عن هذا الموضوع عندما كان جورج دبليو بوش رئيسًا. حددتُ الاستراتيجيات المختلفة التي يمكن أن تستخدمها الدول لترويض القوة الأمريكية، وقد جادلت بأن إدارة بوش تشجع المزيد من الدول على معارضة التفوق الأمريكي وتسهل جهودهم لتحقيق النجاح. لكنني لم أكن أتوقع أبداً أن يكون بأحد الأيام ربان سفينة الدولة رجل بحالة عاطفية كالقبطان كويج (شخصية سينمائية ذات سلوك غريب يُعَرِّض السفينة للخطر).
الشهر الماضي نشر والت أطروحة جديدة بمجلة «فورين بولسي»، مستعرضاً ممارسات الدول (الأصدقاء والأعداء) للتعامل مع القوة الأمريكية إما لنزع فتيل الأخطار التي قد تشكلها أو لتحويلها لأغراضها الخاصة، إضافة للتعامل مع مفاجآت إدارة ترامب، راصداً بذلك أربع استراتيجيات من الدول تجاه القوة الأمريكية، وعلى الدبلوماسية الأمريكية التعرف عليها وحسن التصرف تجاهها، والتعامل مع الدول الأخرى باحترام، وبطرق تقنع المزيد من الناس بأن القوة الأمريكية، بشكل عام، قوة خيرة في العالم.
وبالمناسبة نجد في الاستراتيجية الثالثة إشارة للمهارة الدبلوماسية لسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مع الإدارة الأمريكية كأحد أساليب القوة الناعمة.. وهنا خلاصة هذه الاستراتيجيات.
الاستراتيجية الأولى هي التوازن؛ إذا فشلت الدول من التملص في مواجهة القوة العظمى فقد «يتوازنون ضدها»، حيث تستجيب الدول للتهديدات من خلال البحث عن حلفاء للمساعدة في حمايتها أو بتعبئة مواردها الخاصة لمقاومة الدولة الأقوى.
هناك نوعان من التوازن: المكشوف والناعم؛ الأول مثلما تفعل كوريا الشمالية وإيران في تطوير ترسانتها النووية، والثاني في تنسيق الدول للحصول على نتيجة لا تريدها أمريكا، كالتعاون بين روسيا والصين، وكاستجابة الدول مع تخلي ترامب عن الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، وفرض الرسوم الجمركية من خلال اتباع صفقات تجارية تستثني الولايات المتحدة وتنسيق مواقفها باجتماعات مجموعة الدول السبع.
الثانية هي استراتيجية الممانعة ورفض الالتزام بمطالب أمريكا.. فقد رفضت المكسيك بناء جدار على الحدود، وترفض تركيا تسليم قس أمريكي بدعوى ارتباطه بأنشطة مناهضة للحكومة، ورفضت كل من كندا والصين وألمانيا بشكل عام الاستجابة لمطالب ترامب بالتجارة، على الرغم من أن التنازلات من كلا الجانبين قد تؤدي بالنهاية لإبرام اتفاقات جديدة. أحياناً تتخذ الممانعة أشكالاً خفية عندما تريد الدول تجنب مواجهة مفتوحة مع واشنطن، كأن توافق رسمياً على اتخاذ بعض الإجراءات التي تريدها أمريكا، لكن ببطء قدر الإمكان وقد لا تتم أبداً.
والفكرة هي فعل ما يكفي شكلياً لإبقاء أمريكا راضية؛ مثل تعهدات الناتو بزيادة الإنفاق على الدفاع.. وتعد كوريا الشمالية ممارساً بارعاً بذلك.
الثالثة: الترابط وتعزيز علاقة خاصة مع أمريكا، بتوثيق الصلة مع كبار المسؤولين -خاصة الرئيس- هي استراتيجية للتأثير على كيفية رؤية هؤلاء المسؤولين للمشكلات العالمية وتشكيل طريقة معالجتها.
يذكر والت أنه خلال العقود الستة الماضية، عمل الكثير من الزعماء جهداً إضافياً لذلك، مثل ونستون تشرشل، والمستشار الألماني هيلموت كول، والأمير بندر بن سلطان.. والآن يقوم القيادي السعودي الأمير محمد بن سلمان بهذا بنجاح، وكذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لكن هناك من فشل فيها مثل شينزو آبي اليابان، وماكرون فرنسا، وترودو كندا. فنجاح ذلك يتطلب جاذبية شخصية وقدرة على الإقناع، إضافة لطبيعة الرئيس الأمريكي ونوعية مستشاريه وداعميه في الداخل..
الاستراتيجية الأخيرة: نزع الشرعية لإقناع الآخرين حول العالم بسوء القوة الأمريكية وفشل قيمها باعتبارها غير جديرة بالتقليد.. يرى والت أن ترامب ربما سهَّل على خصوم أمريكا هذه المهمة.. وأصبح التندر عليه مسلياً للمسؤولين الأجانب.. وقد يكون ذلك فرصة لروسيا والصين حسب والت مستذكراً مقولة نابليون لجنوده: «عندما يقوم العدو بحركة خاطئة، يجب أن نحرص بعناية على ألا نقاطعه».