إنّ تغيُّرَ الأنماطِ الحياتيّة للمجتمعات البشريّة عادةٌ من عادات الله وسُنّةٌ من سُننه، وإنّ واجبَ فقهاءِ كُلِّ عصرٍ ومصرٍ إعمالُ آلةِ الفقه في العاداتِ والمسائلِ المُتجدّدة، ثمّ التعبيرُ عنها بحسب ما اصطلح عليه أهلُ الزمان والمكان، لا بحسب ما رَسخَ في ذهن الفقيه من عبارات إمام المذهب والأصحاب، ولأجله دخلت ألفاظٌ عامّيّةٌ كُتبَ الفقهاء، وابتدأ ذلك بدخول غير العرب في الإسلام الصّالح لكلّ طارئ وجديد ومتغيّر، فكلمة (خركاه) وجرموق) - مثلاً - غير عربيّتين، وتدلّان على نمط معاش في بلاد خراسان وما وراء النّهر، أمّا الخركاه فخباءٌ صغير يُستخدم للمبيت ويقي من المطر، وأمّا الجرموق فخُفٌّ قصيرٌ يُلبسُ فوق الجورب في البلاد الباردة، ودخلت الكلمتان في كتب الفقهاء بعد أن استنارت خُراسان بالإسلام، وتحرّكت قبائل التُّرك من بلاد ما وراء النّهر إلى ما بعده، وبعد أن سُئل الفقيه الخراسانيُّ عن النّمط الخاصّ المُعرَّفِ بلهجة دارجة، فأفتى الفقيهُ قياماً بالواجب في ظلّ التغيّر والطّروء، وأُودعت فتواه متناً أو شرحاً، وانتقل المتن من قِطرٍ إلى قِطرٍ بذريعة التعليم، وبقي فيه اللفظ العامّيُّ الخاصّ بذريعةِ إعمال آلة الفقه وشحذها في ذهن المتفقّه، لا بسبب انتشار العادة واللفظ الدّالّ عليها، ووصل المتنُ بلادَ العراق والشّام. ثمّ إنّ فقهاء المِصرين همّشوا وحشّوا بأمثلةٍ من الواقع الذي يعيشونه ويعيشه تلاميذهم، وعبّروا بكلماتٍ عامّيّةٍ لا يعرفها الفقيه السّابق بسبب تجدّد العوائد وما يدلّ عليها من ألفاظ، فزادت العامّيّة في كتب الفقهاء شيئاً يسيراً، ثمّ تحرّكت الحنبليّة في نجد في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين، وتتابعت الرّحلة إلى الشام ومصر، ونُقلت عباراتُ حنابلة المِصرينِ وأمثلتُهم المضروبة بلهجاتهم العامّيّة إلى نجد، وفسّرَ الفقيهُ النّجديُّ ما عرفه منها؛ كتفسير الشيخ عبد الله بن ذهلان (صدر الزُّقاق) بقوله: (هو آخر السّكّة، عكس أوّلها الذي هو مُبتدأ الدّخول إليها) (1)، وكقياسه على (باب السّرّ) المعروف في بيوت الشام ومصر، وتخرج منه نساء الدّار وصاحبه أحياناً(2)، وأمّا ما لم يعرفه الفقيه النّجدي من العامّيّة في عبارة الفقيه الشّامي والمصري فإنّه يُفصح بجهله، قال الشيخ أحمد المنقور في آخر كتابه (الفواكه العديدة) ضمن المسائل التي أشكلت عليه: (قوله: نقوط عرس، لا أعرفه)(3)، يقصد قول الحجّاوي: (ولا يوز لواهبٍ ولا يصحُّ أن يرجع في هبته ولو صدقةً وهديةً ونحلةً أو نقوطاً أو حَمُولةً في عُرسٍ ونحوه)(4)، والنّقوط يُفعل في مناسبات الفرح كالعُرس، وصورته أنّ المدعوَّ ينثرُ المال إكراماً للدّاعي ومشاركةً له في الفرح، وإذا نثره؛ لُقط، ولا يُطالَبُ قابضُ المال بما لقطه في العادة(5)، قال الجبرتي: (وفي يوم الخميس عملوا الزّفّة لعباس باشا، وختنوه، وامتلأ طشت المزيّن الذي ختنه بالدنانير من نقوط الأكابر والأعيان)(6)، والمُزيّن لقب الحلاق، وتوسّعوا فيه(7).
لم يكتفِ الفقيه النّجدي بمعرفة الكلمات العامّيّة الدّالة على نمط بيوت وطُرُقات دمشق والقاهرة، بل صوَّرَ بعضَ أنماط النّجديّين وعاداتهم الخاصّة لحنبليّ الشام ليُعمل آلة التخريج والقياس في المذهب، أو يلوّح بعبارة مُجتهدٍ، ومن ذلك أنّ عالماً نجديّاً، وهو الشيخ عبد الرحمن بن ذهلان (1099هـ) فيما يظهر؛ وصفَ للشيخ محمد بن بلبان الخزرجي الدّمشقي ماء المنحاة المُشتركة التي يسقي فيها حمارٌ علق فيه أثر روثه؛ فحكم البلباني بنجاسته يقيناً، ومنه: أنّ الشيخ أحمد بن عطوة (948هـ) عرّف شيخه الدّمشقي أحمد العُسكري (بضمّ العين) بحال أمراء البلدان النّجديّة واستقلال كل واحد ببلده؛ فقال: (حكمهم كغيرهم من السلاطين في سائر الأوطان)أهـ(8). ولمّا قويت الملكة الفقهيّة في نجد، وظهرت عليها مظاهر الاستقلاليّة في النّصف الأخير من القرن الحادي عشر الهجري؛ صار الفقيه النّجديّ يُعملُ الآلة الحنبليّة، ويُهمّش ويُحشّي ويُذيّلُ على عبارات فقهاء الشام ومصر بأمثلةٍ من عادات النّجديّين وأنماط معاشهم، ويُعبّر عنها بألفاظِ النجديّين العامّيّة، فزادت الكلمات العامّيّةُ في كُتُب الفقه في القرن الحادي عشر الهجري بصورةٍ تفوق العامّيّة المنثورة في كتب حنابلة الشّام ومصر. ومن أمثلة العامّيّة في فتاوى فقهاء نجد في القرن العاشر الهجري والقرن الحادي عشر الهجري: (رُبّ التّمر): وهو تمر مطبوخ يوضع في عكّة السّمن ليربّها ويقوّيها ويمنع الرائحة أن تتسرّب إليها(9)، و(لهوج): فتحةٌ في الجدار على هيئة مثلث، ويُعبّر عنه في القرن الثالث عشر بـِ (لَهَج)، وربّما يكون من اختلاف اللسان بين الأقاليم النّجديّة(10)، و(نثايل القلبان): جمع نثيلة، وهي كمّيّة التراب التي تُستخرج من حفر البئر وغيره(11)، و(وظيمة، ومدَرَّج): من عاداتهم في السّيل أنّهم يجعلون له مدخلاً مُدرّجاً من حجارة لتخفيف سرعته، ولئلا يحفر الوظيمة، وهي: مدخل سيل له صفةٌ، وإن لم يُفعل ذلك؛ انقطع السيل(12)، و(قوع): هو الحوش(13)، قال الشيخ محمد بن اسماعيل:(إذا عطن العيش في القوع فالظاهر لزوم زكاته من غيره من الجيّد لاستقرار الزكاة بالوضع قبل عيبه، بخلاف ما لو عاب قبل الوضع، ولو بعد الحصاد فيما يظهر، أو أتاه وجع فضمر حبّه؛ فيُجزئه الإخراج منه)(14).
من براعة الفقيه أحمد المنقور ودقّته أنّه عبّر عن مسألةٍ من المسائل بأكثر من كلمة عامّيّة تنبيهاً على اختلاف لسان بلده سدير عن لسان أهل العارض التي تعلّم فيها على يد شيخه الفقيه المتبحّر عبد الله بن ذهلان، قال المنقور: (مَقْطَع أو مَكْثَح سيل)(15)، وعلّق الشيخ محمد بن فنتوخ من أهل الوشم على عبارة المنقور في نُسخته بقوله: (لسان أهل سدير ولسان غيرهم) (16)، وهذا يُفيدنا أنّ لكلّ إقليمٍ نجديٍّ موروثاً خاصّاً من العامّيّة لا يتطابق مع غيره، وأنّ ما ظهر من تعميم في عناوين كتب اللهجة العامّيّة النّجديّة إنّما يُقصد به لسان بلد المؤلف الخاصّ لا عامّة أهل نجد، وهذا هو سبب عدم عثورنا على ما يُسعفنا في خصوص كلماتٍ عامّيّةٍ واردةٍ في رسائل الشيخ المُجدّد العارضيّ محمد بن عبد الوهاب؛ مثل: غترت، وغاترك، وأراك، والمطافس، وشراشر، وأكان، ولا كان، وأعني له، وبنوّ الخير، والرّاضة.
أتمنّى لو يُفرد إقليم العارض بدراسة تجمع لهجته الخاصّة، فإنّ إفراد اللهجة العارضيّة بدراسة واجبٌ علميٌّ يقع على كاهل المجموع خصوصاً المتخصّصين، ولو ذُكر في الدّراسة المرادف من لهجات الأقاليم النّجديّة الأُخرى لزاد الحُسن. رحم الله أهل نجد وغفر لهم.
... ... ...
هوامش
(1) أحمد المنقور (الفواكه العديدة) (1/285).
(2) أحمد المنقور (الفواكه العديدة) (1/284)، ويُنظر البهوتي (كشاف القناع) (3/408)، ودهمان (معجم المصطلحات التاريخية في العصر المملوكي) ص28.
(3) (الفواكه العديدة) بخط الشيخ محمد بن فنتوخ ص565، ومخطوط مكتبة عنيزة لـ262، وهو ساقط من المطبوع، وموضعه منه: (2/386).
(4) (الإقناع) (3/109-110).
(5) يُنظر: ابن تغري بردي (النّجوم الزاهرة) (8/16).
(6) (عجايب الآثار) (5/1461).
(7) يُنظر: الجزري (اللباب في تهذيب الأسماء والألقاب) (3/205).
(8) يُنظر: أحمد المنقور (الفواكه العديدة) (1/26)، (2/194، 390).
(9) عبد الرحمن المانع (معجم الكلمات الشعبيّة في نجد) ص193، ويُنظر المنقور (1/20).
(10) يُنظر عبد الرحمن المانع (معجم الكلمات الشعبيّة في نجد) ص92، والمنقور (1/95).
(11) عبد الرحمن المانع (معجم الكلمات الشعبيّة في نجد) ص307، ويُنظر المنقور (1/89).
(12) عبد الرحمن المانع (معجم الكلمات الشعبيّة في نجد) ص45، وينظر المنقور (1/349)، (2/379).
(13) عبد الرحمن المانع (معجم الكلمات الشعبية) ص88.
(14) المنقور (1/154).
(15) هكذا في ثلاث نُسخٍ خطّيّة، ووقع في المطبوع: (مكثح أو محفر) (1/316)، وهو موافق لنُسخة خطّيّة واحدة.
(16) (الفواكه العديدة) بخطّ الشيخ محمد بن فنتوخ، ص209.
** **
- د عبد الله بن سعد أباحسين