حمّاد السالمي
* توقفنا في الحلقة الأولى من هذا المقال عند الكلام عن طريق جبل كرا، الأعجوبة التاريخية التي شهدها العهد السعودي الميمون في هذا العصر، عهد الأمن والأمان الذي يتمتع به حجاج بيت الله الحرام كما لم يحدث منذ أربعة عشر قرنًَا. هذه حقيقة يعرفها القاصي والداني، ويشهد بها العدو قبل الصديق. كيف وقعت معجزة فتح جبل كرا الذي كان طيلة ألف سنة وهو جالب لونّات وأنّات الجمّالة، وشاهد على مشقة المسافرين والرحالة..؟
* هذه القصة كان يرويها معالي الشيخ: (عبد الله بن عبد الرحمن العدوان)، وزير الدولة للشؤون المالية في عهد الملك سعود - رحمهما الله -؛ ففي تلك الفترة كثرت الشكوى من المسافرين على طريق السيل بين مكة والطائف، وهو الطريق الوحيد للسيارات. وجاء قبل ذلك أن نائب الملك عبد العزيز على الحجاز فيصل بن عبد العزيز كان يتردد على طرفَي جبل كرا من أسفله في الكر، ومن أعلاه في الهدا، متأملًا ومتفكرًا في كيفية تذليل هذا الطود العظيم، وهو الذي ليس به سوى طريق وعر للجمّالة، في وقت أخذت فيه السيارات تكثر وتنتشر. يقول الوزير العدوان - وقد سمعت هذا منه في أكثر من مجلس في الطائف قبيل وفاته رحمه الله، وسمعه معي جمع من الفضلاء - إن الأمير فيصل بن عبد العزيز نائب الملك سعود طرح فكرة مشروع شق جبل كرا للنقاش في مجلس للوزراء، وكان ينوب عن الملك في هذه الجلسة. يقول: كنا أربعة عشر وزيرًا، فصوت لصالح المشروع سبعة وزراء، وصوت ضده سبعة وزراء، ثم أعطى الأمير فيصل صوته لصالح المشروع مرجحًا الكفة، ليبدأ العمل بعد ذلك في نهاية السبعينيات من القرن الهجري الفارط. بدأ العمل المعجزة التي تمت بنجاح؛ ليُفتتح المشروع على يد الملك فيصل في العام 1385هـ. ثم شهد الطريق قبل عشرة أعوام توسعة هي الأولى في تاريخه، جعلت منه طريقًا مزدوجًا.
* طريق جبل كرا هو اليوم من أعظم وأشهر وأكبر طرق ودروب الحج التي تربط الطائف بمكة، يليه طريق السيل، وهناك دروب أخرى تاريخية، كانت مطروقة، ثم أضحت مهجورة، منها: يعرج، وشُعار، وغرزة، وخروب، وصرّ، وعَلق، وعَفار، وحدب كلوة، والمحضرة، وظبيات، وعقبة سلامية، وعكاظ، وغيرها.
* ماذا بقي من دروب الحجيج التاريخية التي كانت تربط بين مكة والعراق والشام ومصر واليمن وسواها من الأمصار بعد ظهور النقل الجوي، وتطور النقل البحري..؟!
* هناك كثير من القصص والروايات التي تدور من خلال رحلات الحج قديمًا، تحمل الكثير من الدلالات العلمية والإنسانية التي لا يعرفها إلا العرب والمسلمون المعنيون بفريضة الحج والعمرة. قبل أعوام قليلة عرضت في نادي عرعر الأدبي بحثًا لي بعنوان: (حِذف من درب زبيدة). وحققت فيه جغرافيًّا وتاريخيًّا منطقة نقطة التقاء درب البصرة بدرب الكوفة في المِسلح على وادي العقيق - عقيق عشيرة - واكتشفت فيها (36 نقشًا أثريًّا صخريًّا غير منقوط) على الدرب. ولفت نظري ما يتردد من نصوص في المراجع القديمة وحتى الحديثة غير محققة؛ فقد ورد عند المقريزي هذا النص: (وكان الخليفة المهدي أول من حمل الثلج إلى مكة)..! وذُكر كذلك في أكثر من مصدر أن خلفاء أتوا من بعده كانوا يأمرون بإيصال الثلج من العراق إلى الحجاج في مكة والمدينة، وكانوا يهتمون كثيرًا بتبريد الماء في المشاعر المقدسة. بل ورد أن خلفاء بني أمية كانوا يجلبون الثلج من جبال تركيا إلى مكة. هذه المعلومة ترد ولم يفندها - حسب علمي - أحد. فهل عرف الأقدمون الثلج بالصورة التي نعرفه بها اليوم..؟ وكيف كانوا يصنعون الثلج إذا كان هذا صحيحًا..؟ ثم إذا افترضنا أنه كان لهم طريقة أو وسيلة ما لصنع الثلج فكيف كانوا ينقلونه على ظهور الجِمال والبغال من العراق إلى مكة في رحلة برية تحت الشمس تستغرق شهرين أو ثلاثة..؟ كم نحن بحاجة إلى تفسير علمي من متخصصين في هذا الشأن.
* ونختم بهذا الموقف الطريف الذي وقع للإمام أبي حنيفة النعمان في مكة وهو في موسم الحج. يقول بعض المصادر عن النعمان نفسه قال: أخطأت في خمسة أبواب من المناسك بمكة، فعلمنيها حجّام، وذلك أني أردت أن أحلق لأخرج من الإحرام، فأتيت حلاقًا، وقلت: بكم تحلق لي رأسي؟
قال: هداك الله؛ النسك لا يُشارط فيه. اجلس واعط ما يتيسر لك. فجلس أبو حنيفة، غير أنه جلس منحرفًا عن القبلة؛ فأومأ له الحلاق باستقبال القبلة ففعل.
ويقول أبو حنيفة: ثم أعطيته رأسي من الجانب الأيسر ليحلقه، فقال الحلاق: أدر شقك الأيمن، فأدرته. وجعل يحلق رأسي وأنا ساكت أنظر إليه وأعجب منه. وقال لي: مالي أراك ساكتًا؟ كبّر وهلّل إنها نسك. فجعلت أكبّر حتى قمت لأذهب، فقال الحلاق: أين تريد؟ فقلت: إلى رحلي. فقال: صلّ ركعتين ثم امض إلى حيث تشاء.
يقول أبو حنيفة: فصليت ركعتين، وقلت في نفسي: ما ينبغي أن يقع مثل هذا من حجّام إلا أن يكون ذا علم، فسألته: من أين لك ما أمرتني به من مناسك..؟ فقال: لقد رأيت عطاء بن أبي رباح يفعله، فأخذته عنه، ووجهت الناس إليه.
* ما أكثر ما كُتب عن الحج، وما صدر من كُتب عن رحلات الحج. كان هذا في زمن رحلات البر والبحر لا الجو. لقد فقدنا متعة السرد التاريخي، والوصف الجغرافي، والإبداع الشعري والأدبي، الذي كانت تهدينا إياه رحلات الحجاج الأدباء والفقهاء عبر دروب الحجيج الشهيرة. فقدنا هذه المتعة مع هدير الطائرات في هذا العصر.