فوزية الجار الله
يرى البعض أن الأفضل ألا يكتب الروائي سيرته الذاتية؛ كي لا تفقد أعماله قيمتها، لكن ذلك - فيما أرى - لم يحدث عند قراءتي سيرة الربيعي؛ فكتابه غني ثري بالأحداث والتفاصيل الممتعة، إضافة إلى أسلوبه السردي، ولغته الجميلة، حتى أن وضوحه الشديد وصراحته في بعض المواقف ربما يصيبانك بما يشبه الصدمة. أيضًا - رغم ذلك - لم تُفقد الكتاب بهجته، بل على العكس لها وجهها الآخر؛ فهي تكرس قيمة السيرة باعتبارها تعرض واقعًا لحياة مضت.
«فتحت عيني على خبز أمي، وبعد رحيلها على خبز خالتي وجِدتي لأمي التي تربيت أنا وأخي وأختي في حضنَيْهما..».. أثناء قراءتي لهذه السيرة لمست تشابهًا واضحًا بين طابع الحياة قديمًا في العراق ومعظم الدول العربية، ومنها بلادنا.. يقول الربيعي: «كانت في باحة كل بيت زاوية للتنور، ولكن عندما بدأ تغيير سقوف البيوت من جذع النخيل وحصرانها إلى سقوف الحديد والأسمنت نُقلت التنانير إلى السطح؛ وفي هذا وقاية من الحرائق التي كم تسببت بها تلك التنانير..».
في قريتي التابعة لمنطقة نجد أتذكر أن أحد معارفنا كان في بيتهم الطيني القديم تنور في المطبخ، وكانوا يسمون المطبخ (الموقد)..
يقول الربيعي إنه بدأ ارتياد المقاهي الشعبية المجاورة الشهيرة مع والده مذ كان في السنة الخامسة الابتدائية، وقد تعرف على أشهر المغنين هناك، منهم (حضيري أبو عزيز)، ويقال إنه كان شرطيًّا، وفي نوبات الحراسة كان زملاؤه يطلبون منه الغناء بإلحاح؛ فيلبي طلبهم.. سُمي حضيري أبو عزيز (بلبل الريف)، وقد انتبه له أحد المخرجين في مصر؛ فجعله يغني بالزي العراقي الشعبي: العباءة و(اليشماغ) - كما يُسمى في العراق - والعقال.. أغنيته الأكثر شهرة «عمي يا بياع الورد قل لي الورد بيش قل لي».. خلال الفيلم، وكان اسم الفيلم (القاهرة - بغداد). وقد اصطحبه والده لمشاهدة الفيلم.
يتحدث الربيعي عن الموت قائلاً: «موت أمي وموت أبي.. سكينة وطقوس تغسيله وتكفينه ما زالتا تشكلان مواجهتي الأولى للموت، لكن هناك من يتحدث عن الأمر بسهولة، وأحسده على هذا. وأذكر هنا العلامة عبدالحميد العلوجي، وهو من أشهر الباحثين ومحققي التراث، لا في العراق فقط بل في الوطن العربي، ورئيس تحرير أهم مجلة تراثية، هي (المورد)، أذكره وقد جاء ذات صباح ليحدثنا بفرح؛ لأنه فرغ من بناء قبره بعد أن اشترى قطعة أرض من أجل ذلك في مقبرة جديدة تسمى مقبرة محمد السكران (نسبة إلى أحد المتصوفة المشهورين)، وفيها دُفن أيضًا جبرا إبراهيم جبرا - رحمه الله -».
أحببت كتاب (عبدالرحمن الربيعي)، ورغم ذلك لا أستطيع استعراض الكلمات والمواقف كافة التي أدهشتني؛ وتوقفت أمامها، لكنني اكتفيت ببعض الإضاءات حوله.