د.فوزية أبو خالد
مرشحة لمغامرة المعرفة ورهجة المجهول
صباح الاثنين 1/ أكتوبر 1997م ركضت السابعة صباحا في ذلك النهار الخريفي بهبوبه البارد الخفيف وألوانه المتموجة بين الكهرماني والكركمي والكناري ملوحة للباص الذي وصل المحطة قبل أن أصل ,إلا أنه لمفاجأتي توقف لريثما صعدت وأنا بالكاد التقط أنفاسي ليس من الجري وحسب بل من حس الفتوة والحماسة الذي كانت تنفخه في روحي فكرة العودة طالبة صغيرة بضفائر طائشة ومعطف مفتوح وحذاء رياضي وحقيبة على الظهر تلوح لرهجة المجهول ولغواية التعليم النظامي من جديد. التقطت بعد ذلك كلمة (تشيرز) (Cheers) على الطريقة «المانكونية» لأهل مانشستر في التعبير عن كلمة الامتنان, ولم أجد في المتحدثين بالإنجليزية من الأمريكان والبريطانيين من يستخدمها يوميا وخاصة عند الصعود والهبوط من حافلة النقل العامة سواهم. وكم كنا نتبادل تلك الكلمة أيضا على المداخل عند فتح الناس لبعضهم البعض تلك الأبواب العملاقة الخشبية الثقيلة أو إمساكها ليمروا عبرها إلى تلك المباني الحجرية المتينة المُعتقة لمايزيد على مئة عام كحال معظم المباني القديمة بمانشستر, من مبنى كوبلاند هول ,حيث يقع مبنى قسم الدراسات الاجتماعية, ومبنى سميث حيث تقع مكاتب طلاب الدراسات العليا ومختبرات الكمبيوتر بالجامعة إلى مبنى بلدية مانشتر وسط البلد غير بعيد عن الأرنديل. وأتذكر ضحكنا هتون وأنا وزميلات لنا إصلاح يونس من السودان , غادة الذبياني من لبنان , نسرين علي من كشمير وريتشل هيه من إيرلندا كلما كنا نسحب بجهد جهيد تلك الأبواب ونقول إنها ليست بوابات لدخول المباني وحسب بل هي مدخل لاشتباك الناس في علاقات اجتماعية تفاعلية تبدد وحشة اغتراب الطلاب عن أوطانهم.
دفعت يومها رسوم الجامعة للفصل الدراسي الأول ( 2243جنية استرليني) عدا ونقدا من مبلغ كان مستدانا من جريدتي الجزيرة بعد أن وافق ذلك الصحفي المهني الشهم الأستاذ محمد أباحسين رحمه الله وكان رئيس التحرير وقتئذ على صرف ستة شهور مقدما عن عامودي الأسبوعي لأدفعها لرسوم الجامعة ولتدبر أموري المعيشية بالقليل المتبقي منها. فكانت وقفته النبيلة تلك التأشيرة المالية التي لم يكن لي أن أبدأ رحلتي العلمية بدونها إلا أنها كانت تباشير الغيث أيضا للخروج على عنق الزجاجة الذي كانت أحلامي حبيسته لعدة أعوام. إذ مالبث أن تدخل د.غازي القصيبي رحمه الله ود.خالد العنقري أمد الله في عمره ليقفا بجانبي في المقاومة التي خضتها في وجه استبعادي الطووويل من عملي بالجامعة. فجرى ضمي إلى البعثة على حساب بلادي وجرى معالجة إعادتي للعمل فلايضار في شغفه العلمي.
في نهاية يومي الجامعي الأول وبعد أن استلمت إيصال التسديد عرجت على مكتب القبول والتسجيل لاستلم بطاقة هويتي الدراسية الجديدة. كان رقمي الجامعي 9778304 ومكتوب على البطاقة تحت صورتي الفورية «مرشحة دكتوراه». أسر لي أبنائي بقامتهم الطفولية الممتدة أمامي كسارية أمل: «أخيرا ياماما صرت مرشحة ولم يبق إلا أن تخوضي معركة الانتخاب وتفوزي بالدرجة العلمية».
كمين المكان بين المعمل والمكتبة
يوميا كنت أتساقى مع أطفالي كؤوس الصبر ونوافير القلق وسلسبيل الأشواق مع ما لايحصى من عزايم الزعفران ومحو الحبر وشهد الدعاء.
ويوميا كان هناك شارع أكسفورد الذي كان علي أن أعبره في النهار الواحد عدة مرات لعدة سنوات حيث تقع على حافيته مباني جامعتي وغير بعيد عنها مباني جامعة أخرى/ متربولتين/ ويومس من جامعات مانشستر الرئيسية الثلاث. كان هناك مبنى «كوبلاند2» الذي يحوي قسم علم الاجتماع والإنثربولوجي وعمادة التطوير الأكاديمي بمبناه ذي الطراز الفكتوري القديم وبتلك الأغصان السخية التي تغطي حجر جدرانه الخارجية طوال العام بعدة ألوان. وهو المبنى الذي قابلت بالدور الثالث منه الأستاذ المشرف على أطروحتي «البرفسور باندلي جلافانيس» لأول مرة. ذلك الدكتور اليوناني الموسوعي سريع البديهة حاد الذكاء الذي فاجأني بعد عدة شهور من عملي معه بأنه يجيد اللغة العربية بما لايقل عن إجادته للغة اليونانية والإنجليزية وإن لم يخاطبني قط في لقاءاته الإشرافية بكلمة عربية واحدة. كان علي قطع الشارع والتنقل بين المباني العتيقة من و إلى قاعات المحاضرات ومكاتب طلاب الدكتوراه ومنها مكتبي المشترك مع «هارونة» من اليابان ومع لورا سميث من بريطانيا ومع جابي صمويل من بولاندا وترهي جوان من فيرلاندا. في معمل الكمبيوتر تعلمت أول دروسي في اللغة التكنولوجية الجديدة وقتها وقضيت فيه سحابة نهاري وأول المساء من ليلي الطووووويل. من بداية دهشة الوهلة الأولى لاكتشافي عالم الإيميل والانترنت.. إلى نهاية كلمة تمت رسالة الدكتوراه بحمد الله. بين المكتبة ومعمل الكمبيوتر قضيت معظم ساعات يومي لمدة خمسة أعوام.
ومع اختصار مخل لكمين مانشستر من كمائن الأمكنة/الجزء الثاني التي أعدها مع أ.عبدالوهاب العريض للنشر في كتاب قريبا بإذن الله, لابد من ذكر بديهية بسيطة لتلك المرحلة الدراسية من عمري بما تعلمته من الفصل الدراسي الأول لالتحاقي ببرنامج الدكتوراه إلى أن تخرجت, وهي بديهية أن سواني أطروحة الدكتوراه بحسب نظام التعليم العالي البريطاني لا تدور رحاها ولاتطرح ماءها دون التدرب اليومي الصارم على عدد من المهارات المنهجية الأساسية التي تختصر في أربع كلمات سحرية: (أسأل question, أبحث research, تبادل معرفي exchange ideas, جادل argue). وأضيف عليها من منحوتات تجربيتي كلمات : لاتكف عن الحلم بكسر الحاء وبضمها ولاتتوقف عن المقاومة.