د. محمد بن يحيى الفال
بعد سنوات من الصبر انتفضت البصرة ضد الظلم والتهميش الذي أصابها لسنوات طوال، هذه المدينة التاريخية التي تعتبر أيقونة المدن العراقية بماض عريق وتليد زاخر بإنجازات أهلها في كافة صنوف المعرفة والعلم والإبداعات عبر تاريخها المجيد الذي قدم للحضارة الإسلامية الكثير من أفضل العلماء المسلمين الذين كانت لهم بصمات إبداعية لا تنسى وباقية في الذاكرة لتذكرنا دوماً بدور هذه المدينة العتيقة في تاريخ الإسلام ونهضته، التي كانت هي من أهم حواضره وأكثرها تأثيراً ولحقبات امتدت لمئات السنيين. على السطح فالمظاهرات التي شملت كل أرجاء المدينة كانت مطالب المحتجين فيها هو توفير أدنى الاحتياجات التي لابد من توفرها لأي مدينة في العالم، وهي الماء النظيف وإمدادات كهرباء يعتمد عليها، بيد أن هذه المطالب كان أيضاً من ورائها ويحركها حنق مزمن وُمتفهم ومتراكم يعرفه كل سكانها وكل أهل العراق، وهو بأن نظام الملالي هو الجهة التي كانت من وراء ما حصل لمدينتهم التي تعتبر من أغنى مدن العالم، حيث تملك المدينة جُل آبار البترول العراقي ويصب بالقرب منها في شط العرب النهرين العظيمين دجلة والفرات التي عُرفت بهما العراق تاريخيا بمصطلح بلاد الرافدين (Mesopotamia). العقل والمنطق والحال يقولون بأن ما تعانيه مدينة البصرة من تردٍ شامل لكل الخدمات فيها هو ليس بسبب نقص في الإمكانيات ولا في شح الموارد المالية ولا في عقول أهلها ومقدرتهم على إدارتها وهي المدينة التي عُرف عنها ومنذ فجر التاريخ بأنها المدينة التي أنجبت العباقرة والنجباء في كل الفنون، عليه فإن الحال الذي وصلت إليه المدينة كان من ورائه حقد ملالي طهران عليها وهم الذين أكدوا مراراً وتكراراً وعلى رؤوس الأشهاد بأن العراق سوف يدفع ثمناً باهظاً لخوضه حرباً ضد إيران، وهو الأمر الذي لم يعد خافياً على أهل العراق وبما تمثله البصرة من أهمية ودور بطولي إبان الحرب، لها ولأبنائها فالحقد على تدميرها بشتى الوسائل من نشر للمخدرات فيها ومن جعلها مُهملة في كل ما يتعلق بخدماتها أضحى هاجساً لدى ملالي طهران وليصل الحال في هذه المدينة العريقة إلى ما وصل إليه من أزمات تبدو وكأنها عصية على الحل. ومع قول ذلك فإنه لا بد من الإشادة هنا بالدور الذي تسعى من أجله حكومة الدكتور حيدر العبادي لتصحيح المآسي التي أصابت الكثير من المدن العراقية وعلى رأسها البصرة، فهو وحكومته ورثوا ورثاً ثقيلاً من سلفهنوري المالكي الذي حكم العراق فيها لسبع سنوات لا يمكن وصفها إلا بالسنوات العجاف التي لم ير العراق في العصر الحديث مثيلاً لها من الفساد والفوضى والتبعية لنظام الملالي بشكل كامل، جعل في النهاية الشعب العراقي الصابر يصل إلى أقصى حالات اليأس والحرمان ورأيناها تتمثل في حرقه لقنصلية نظام الملالي في مدينة البصرة المنكوبة، وهو الأمر الذي ينافي الأعراف الدولية ولكنه أمر كان متوقع الحدوث لنظام لم يحترم سيادة الدولة العراقية على أراضيها بتدخله السافر والمنافي لكل المواثيق الدولية في كل الشئون الداخلية للعراق الشقيق. تحاول حكومة العبادي جاهدة ويبدو بأنها صادقة في ذلك بأن تفعل كل ما في وسعها نحو العودة بالعراق إلى محيطه العربي الذي يفهمه ويتفهم مشاكله ويهدف لخيره وخير شعبه، مهمة الدكتور العبادي رئيس الوزراء العراقي مهمة صعبة ولكن ليست مستحيلة ولن يكتب لها النجاح مالم تكف حكومة الملالي الكهنوتية يدها عن العراق وأهله وتدعهم وشأنهم لبناء دولتهم بعد سنوات من الفوضى والدمار، ولعل الأمر المثير للتعجب هو الموقف السلبي للعالم الغربي وهم يغضون بصرهم عن التدخلات الإيرانية السافرة في الشأن الداخلي العراقي وهم الذين وعدوا الشعب العراقي بالحليب والعسل ليستيقظ على كابوس ماثل أمام أعينه وبشكل يومي وومنهج لتدخل سافر لملالي طهران في كل شئونه.
تدخلات نظام الملالي لم تؤد إلا للفوضوى أينما حلت، وكما هو الحال في العراق ففي لبنان الذي عُرف بأنه أرض للتسامح والتعايش وكانت السياحة العربية والأجنبية تدر لخزينة الدولة اللبنانية مليارات الدولارات سنويا والمصدر الأساسي للنقد الأجنبي للدولة، تغير حال البلاد بعد أن تمكن حزب الله من التحكم في العديد من مفاصل الدولة اللبنانية، فأصبح السفر لهذا البلد رحلة محفوفة بالمخاطر مع تأزم سياسي أضحى كقنبلة موقوتة لا يعرف أكثر الخبراء السياسيين احترافية متى وكيف ستنفجر. سوريا هي الأخرى لم تسلم من جرائم نظام الملالي الذي وجد في سفاح دمشق عميلاً فتح بلده على مصراعيه لبث القتل والدمار والخراب، في هذا البلد المنكوب بسفاح يحكمه لم تبق وسيلة قتل إلا واستعملها ضد شعبه وبمساندة كاملة بقوات عسكرية لنظام الملالي على الأرض السورية.
لعل أهم رسالة يمكن قراءتها من أحداث مدينة البصرة المنكوبة هي لبعض إخواننا في اليمن الشقيق الذين انضم بعضهم خوفاً أو تهديداً تحت مظلة الحوثيين، فالبصرة التي انتفضت ضد الباطل والقهر الذي مصدره نظام الملالي ولم تكن وحدها في ذلك فقد انتفضت قبلها ومازالت الشعوب الإيرانية ضد ظلم وقهر نظام الملالي، فحوى الرسالة هي الاعتبار مما يحدث لمدينة البصرة العربية العريقة، فهذه المدينة التي تعد من أغنى مدن العالم سواء من ثروات النفط أو الماء أو ثروات عقول رجالها ونسائها التي أنجبت للحضارة العربية الإسلامية أفضل العقول وأكثرها تميزاً وأضحت بسبب تدخل نظام الملالي فيها مدينة منكوبة لا تجد حتى الماء النقي للشرب، فالتساؤل هنا إذا كان هذا هو حال مدينة البصرة الفائقة الثراء وما آلت إليه من فقر وحرمان بعد تدخل نظام الملالي في شؤونها، فما هو الحال الذي سيصل إليه اليمن الشقيق لو سمح الإخوة اليمنيون للمشروع الإيراني أن يجد له موطأ قدم في خاصرة العرب، الجمهورية اليمنية!؟