عماد المديفر
يتحدث الكثير عن مصطلح «القوة الناعمة» بانبهار وإعجاب شديدين، مطالبين المملكة بتفعيل «قواها الناعمة» وتوظيفها في مجال العلاقات الدولية التوظيف الأمثل، وربما عتبوا على بعض الجهات الرسمية السعودية لتقصيرها في هذا الشأن.. متوقعين قطف ثمار تفعيلها بشكل آني! بيد أن الواقع غير ذلك؛ إذ إن العمل على توظيف واستثمار «القوة الناعمة» لا يأتي بين ليلة وضحاها، ولا في شهر، ولا في سنة، ولا حتى ربما في خمس سنوات، بل يتم استشعار مردوده بعد هذه المدة، خاصة حين تكون الصورة النمطية للدولة صاحبة الرسالة قد تضررت كثيراً بفعل حملات التشويه المغرضة والممنهجة التي تعرضت لها على مدى عقود طويلة، من قبل جهات تتمتع بتأثير كبير على وسائل إعلام دولية كبيرة ومؤثرة، تستطيع أن تختلق القصص، وتزور الواقع، وتقلب الحقائق رأساً على عقب، فتجعل الأحمر أخضر، والأزرق أصفر! وهو تماماً ما تتعرض له المملكة العربية السعودية.
وعليه فإن التشخيص والتقييم الدقيق الواضح والشفاف للوضع القائم، مهم جداً لتحقيق انطلاقة صحيحة.. بيد أن المملكة لم تقف عند موضوع «القوة الناعمة» هذا، والذي يحتاج كما أسلفت لسلسلة من حملات العلاقات العامة المتواصلة، وذات النفس الطويل.. بل تجاوزتها لما هو أكثر فاعلية، وأسرع في التنفيذ وقطف الثمار، ولاسيما وأن المملكة تتمتع بقوىً صلبة حقيقية، لم تفعلها بشكل كفء منذ عقود، وهو ما تم مؤخراً على يد مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -دام عزه- وسمو سيدي ولي العهد المجدد الأمين محمد بن سلمان بن عبدالعزيز -أيده الله- فقد انطلقت المملكة نحو استراتيجية هي الأحدث، والأنجع، في العلاقات الدولية، والأداء السياسي، يطلق عليها «القوة الذكية» أو «SMART POWER» وهي استراتيجية لا تستطيع العديد من الدول استخدامها، لكونها تجمع بين توليفة متنوعة من القوى والأدوات، تتراوح ما بين الناعمة -كالمساعدات الإنسانية والإغاثية والأنشطة الثقافية والإعلامية والفكرية والدينية والفنية والتراثية والسياحية- والصلبة -كاستخدام الضغوط السياسية والدبلوماسية، والمقاطعات الاقتصادية والقوة العسكرية- جميعاً في آن واحد.. أي أن «القوة الذكية» هي استحضار الدولة لهذه القوى والأدوات المتنوعة، مجتمعة والتمكن منها، وتوظيفها بشكل مخطط وبحسب المواقف والمستجدات ونتائج دراسة الأوضاع، لمواجهة التحديات الخارجية لتحقيق مصالح الدولة والمحافظة عليها وتعزيزها.
وهو ما تمارسه المملكة بنجاح اليوم في سياستها الخارجية، في العديد من الملفات المهمة والخطيرة، وعلى رأسها حربنا ضد الإرهاب، المهدد الرئيس الأول، وما يتبعه من مواجهة حاسمة مع قوى الشر والرجعية والظلام والمتمثلة بقوى الإسلام السياسي، وتنظيم الإخوان المسلمين، وعمائم الإرهاب في طهران، وأدواتهم الحوثيين، وتنظيم الحمدين، وحزب الله، والقاعدة، وداعش، وغيرها.
وتأتي هذه المقالة امتداداً لسابقتها منتصف الشهر الماضي والتي حملت عنوان: «بروز الدبلوماسية الشعبية كدبلوماسية موازية في الأزمات: الحالة الكندية أنموذجاً»، إذ الملف الكندي هو الآخر يأتي في سياق مواجهتنا للإرهاب وللمهددات التي تمس أمننا الوطني من خلال عملاء التنظيمات الإرهابية، أو أولئك الذين تستروا بغطاء حقوق المرأة وحقوق الانسان، بينما الواقع أنهم متورطون في قضايا خيانة كبرى، ضمن مشروع تخريبي كبير، يستهدف مصالحنا العليا، ويأتي كامتداد لمشروع ثورات ما سمي بـ»الربيع العربي» و»الفوضى الخلاقة» والذي جرى -ولله الحمد- إخماده، لكن المشروع لا يزال مستمراً ولم ينته بشكل كامل بعد.. ومن يعتقد غير ذلك فهو إما سطحي ساذج، أو أنه شريك في ذات المشروع الخبيث.
الحالة الكندية إذن تأتي ضمن هذا الإطار، وينبغي هنا التعمق في فهمها وفهم أبعادها، ودوافعها، إذ ثمة حقائق ينبغي تسليط الضوء عليها.. الأولى: أن ما تروج له كندا تحت حكم الجناح اليساري الديمقراطي من أنها تدافع عن حقوق الانسان هو في الواقع محض كذب وهراء، تدحضه مواقفها من المواطنة الكندية التي اعتقلت وعُذِّبت – مؤخراً- حتى الموت في سجون نظام ملالي الشر والإرهاب في إيران، ومواقفها من النظام الإيراني نفسه، الداعم الأول للإرهاب في العالم، والذي يعاني شعبه الأمرين جراء سياساته الوحشية، إذ لم تنبس حكومة «ترودو» ولا وزيرة خارجيته تجاهه ببنت شفة، بل على العكس، ازدادت تقرباً منه، ودعت إلى الانفتاح عليه! وكذلك الأمر فيما يتعلق بعمليات القمع والاعتقال بحق عشرات الآلاف من المواطنين المسالمين الأتراك، بما فيهم عدد كبير من النساء والأطفال، وفصل مئات الآلاف من المعلمين والصحفيين والأطباء والطلبة، من وظائفهم ومدارسهم، وقمع حريات التعبير.. ولم نجد موقفاً كندياً واحداً تجاه ما قامت به حكومة أردوغان من انتهاك فاضح لحقوق الإنسان، تحت غطاء مسرحية «الانقلاب» المزعوم.
وذات الأمر فيما يتعلق بعمليات تنظيم حزب الله الإرهابي، أو ميليشيات الحوثيين الإرهابية، وغيرها الكثير.. إذن الأمر ليس له علاقة بحقوق الانسان، بل هو استهداف مباشر للمملكة العربية السعودية وتدخل سافر وخطير في شؤونها الداخلية.
الحقيقة الثانية: أن حكومة «ترودو» تعلم تماماً أن المقبوض عليهم هم إما متورطون في قضايا التطرف والإرهاب، ودعم الإرهاب، أو قضايا عمالة وتجسس مثبتة، بينما هي تصر على إضفاء صبغة «الناشطين الحقوقيين» عليهم، لتبرير دفاعها عنهم، وضمن هذا الإطار تقوم بالتطرق لقضايا تنفيذ أحكام القتل تجاه الجناة، وتصور المملكة كما لو كانت تقتل الأبرياء، في حين أن هؤلاء الذين تم تنفيذ الأحكام فيهم هم مجرمون في قضايا قتل أو إرهاب وإفساد مثبتة.. فكندا بذلك إنما تدافع عن القتلة والمجرمين والإرهابيين والعملاء الخونة ممن ينتهك حقوق الإنسان.
الحقيقة الثالثة: تأكد لي أن حكومة «ترودو» الكندية تعلم تماماً أن المملكة تولي حقوق الانسان مكانة عليا منذ تأسيسها إلى اليوم، وأن الدفاع عن حقوق الانسان في صميم القيم الثقافية والاجتماعية والدينية في المملكة، حتى إن دبلوماسيين كنديين تعرض آباؤهم لعمليات اضطهاد وتهديد في بلدانهم الأصلية، فهربوا منها إلى المملكة -في ستينيات القرن الماضي- التي بدورها آوتهم ووفرت لهم الحماية والرعاية الكاملة بدون منة، ووفرت التعليم لأبنائهم، والذين ما إن هاجروا إلى كندا حتى أصبح عدد من هؤلاء أو أبناؤهم مسؤولين داخل حكومة «ترودو»، أو أطباء أو معلمين في كندا، ورغم ذلك، تدندن كندا على وتر «حقوق الإنسان» في المملكة وهي تعلم أنها كاذبة.
الحقيقة الرابعة: أن ثمة صلة ما بين حكومة الديمقراطيين اليساريين في كندا، وعدد من المتهمين في قضايا تمس أمن الدولة في المملكة العربية السعودية.
الحقيقة الخامسة: أن مشكلتنا مع كندا ليست حديثة، أو أنها حصلت فجأة كما تحاول وسائل إعلام مغرضة أن تصور، بل إن المملكة سبق وحذرت هذه الحكومة الكندية اليسارية من مغبة التدخل في شؤوننا الداخلية عدة مرات، كان آخرها حين وجه لهم السفير السعودي في كندا رسالة شديدة اللهجة في يوليو 2017، ولكنها وحتى تاريخه لم تحترم ذلك.
الحقيقة السادسة: أنه رغم التخبط والارتباك الشديدين داخل حكومة «ترودو»، إلا أنه لم يصدر منها أي محاولات جادة لرأب الصدع، إذ لا تزال ماضية في طريقها الخاطئ في هذا الاتجاه.
عليه فمن المهم اليوم المضي قدماً في اتخاذ إجراءاتنا الحازمة و»الذكية» تجاه حكومة «ترودو» اليسارية، وعدم التوقف عند حد تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي، وإيقاف العلاقات التجارية والاستثمارية المستقبلية، والتعاون العلمي وخلافه، بل يجب أن نعمل من الآن لحشد تأييد رسمي ودبلوماسي من قبل الدول العربية والإسلامية والحليفة والصديقة، للقيام بضغوطات دبلوماسية واقتصادية وإعلامية أعمق أثراً، الأمر الذي يجعل كندا تحت حكم هذا الجناح اليساري أكثر عزلة في المجتمع الدولي، وهو ما أتوقع أن تراه حكومة «ترودو» رأي العين في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة المزمع في النصف الأخير من هذا الشهر، وهو الأمر الذي سيكون له انعكاسه الملموس على شعبية هذا الحزب الحاكم في الداخل الكندي لصالح الحزب المعارض المحافظ الأكثر عقلانية وحنكة وواقعية واحتراماً، وغير المتورط في علاقات مشبوهة، فالانتخابات التشريعية على الأبواب، والخطأ مع المملكة والإصرار عليه.. باهظ للغاية.
إلى اللقاء.