د.عبد الرحمن الحبيب
مَثَّل المثقف طوال القرن العشرين النخبة المفكرة لتطلعات الشعوب نحو الأفضل عبر المؤسسات الرأسية المحترفة (إعلامية، أدبية، فنية) من خلال الجدارة وجودة المنتج الثقافي. الآن عبر الإنترنت تشظت هذه المؤسسات إلى عدد لا متناهٍ من المؤسسات الأفقية غير المحترفة، بالرغم من أنه تبزغ بين فينة وأخرى مواقع ثقافية جادة لكنها تفتقر للاستمرارية؛ لأنه يعوزها تمويل الإعلان التجاري الذي يأتي مع الانتشار الشعبي..
وإذا كان ثمة بقايا لأهمية المثقف في معمعة الإنترنت فهو ذلك الذي تراجع عن المغامرة الإبداعية ودوره الريادي، وساير الركب مفضلاً الدخول في شعبوية افتراضية بحجة عدم الاستخفاف بوعي الجماهير، والخروج من النخبوية الضيقة المتعالية وغير المؤثرة. صار المثقف خاضعاً لقانون «العرض والطلب» كأي بضاعة؛ والأسوأ أن الطلب فرض نفسه على العرض، على خلاف ما عهدناه من استقلالية المثقف وإن كانت نسبية. ففي قانون العرض والطلب القديم كان العرض الثقافي على مستوى العالم يتفوق على طلب الناس؛ لأن القنوات محدودة تديرها المؤسسات الرأسية.
إذن، المعادلة تغيَّرت بوجود وسيط جديد، وهو الإنترنت المفتوح للجميع استقبالاً وإنتاجاً؛ فصارت الناس تفرض شروطها بما يرضيها على حساب الجودة، بل تنتج قنواتها بشكل غير احترافي في أغلب الحالات. الطلب الحالي للفكر والثقافة على مستوى العالم يفرضه عموم الناس وليس المؤسسات الثقافية والإعلامية ولا المثقف المسكين.
لم أشعر بكون المثقف مسكيناً إلا عندما أهداني مفكر سعودي كتابين رائعين من تأليفه، فشكرته وقلت متحمساً: سيكونان كتابين مؤثرين في الساحة الثقافية وفي المثقفين. قال بأسى: «أنت واهم، سأكون محظوظاً لو قرأهما أناس بعدد أصابع اليدين!». والآن، يشكو كثير من المثقفين من صعوبة نشر كتبهم إلا بعد دفع مبلغ مالي لدار النشر، فلا أحد يشتريها.. صار التأليف فقط لتسجيل موقف للزمن!!
يذكر سعيد الوهابي عن أستاذ اللغة وليام ديريسيفيتش مؤلف كتاب Excellent Sheep أن مجد طلاب وخريجي الجامعات المميزة بأمريكا اليوم هو الحديث عن الكتب وليس قراءة الكتب. القراءة سلوك قديم مرتبط بالقرن العشرين، زمن الواتساب اليوم يفترض أن خريج هارفارد أو ييل أو كورنيل سيكتفي بمعرفة عناوين الكتب الجديدة، اسم الكاتب، فكرة الكتاب، قراءة مقال نقدي عنه. هنا أيضاً نجد أغلب المثقفين يدورون بهذا الفلك مع انهمار معلومات مشتتة وضحلة في الإنترنت..
الإنترنت يشكل حالة تشتيت لأي شخص يعمل، ولكنه يشتت أكثر الكاتب لما يحتاجه الإبداع من تركيز؛ فكيف يتواصل الكاتب مع الجمهور كما تتساءل صحيفة الجاردين؟ بعضهم ساير التيار في مواقع التواصل الاجتماعي، دون أن يستطيع منافسة نجومها الشعبويين، وبعضهم تجنبها باعتبارها تمثل مواقع قلق لكاتب مهجوس بالنص كما يقول إمبرتو إيكو (الروائي والمفكر الإيطالي)، بينما بعضهم ناصب العداء لكل ما يمت بصلة لـفيسبوك وتويتر؛ لأنهما يعجان بالهراء والسخف حسبما يرى الروائي الألماني غونتر غراس.
لكن لا يبدو أن الظاهرة تعير اهتمامًا لهؤلاء المبدعين، فهي ماضية بطريقها دون هوادة مستعمرة الثقافة الشعبوية وكافة أشكال التعبير السابقة بوسائل مبتكرة لغاياتها؛ ورسائلها التي يبدو أنها فعالة، مما أدى إلى تفكيك مفهوم المثقف المستقل كصاحب رسالة ومفكر أو فنان مبدع، كما تستنتج آخر الدراسات عن مستقبل المثقفين (ماريا بيريز).
فكيف هي حال المشهد السعودي في ظل تلك التحولات الحادة؟ أحيانًا تلاحظ أن المثقف يلهث وراء رغبات المتلقي، وأحيانًا تلاحظ العكس فقد يتلاعب بالمتلقي ويدغدغ عواطفه عبر أوتار مؤثرة وآراء غريبة، مثيرة للمتابعة.. بيد أن المجمل العام هو فرض الطلب على العرض. صار بعض المثقفين يلهث وراء شد انتباه الجمهور سواء بمسايرته أو بصدمه (خالف تعرف)؛ وخلال ذلك يقدم وجبات سريعة يبدؤها بمعلومة انتقائية حادة، ويردفها بجملة أكثر حدة؛ لينتج تفسيرات بهلوانية مستعجلة أو توقعات صادمة لا يحدث أي شيء منها إلا القليل مصادفة.. وفي أحسن الأحوال ينتج مقالة خفيفة سطحية سريعة، والأهم أن تلفت الانتباه..
المسألة لا تقف هنا، فالإنترنت لم يأتِ وحده بل هو نتاج تكنولوجي شكلته العولمة الرأسمالية بثقافتها الاستهلاكية، فتأسست ثقافة إعلامية تقوم على المعادلة التالية: المواقع الإعلامية تريد الربح، والربح يعتمد على الإعلان التجاري، والمعلن يهمه ما يرضي المستهلكين.. النتيجة سيادة الثقافة الاستهلاكية. من هنا يتأسس المبدأ الإعلامي الأول: «تريد الربح، اجذب الانتباه» أياً كان؛ لأنه سيجلب الإعلان المموِّل لعملك. فمن ذا الذي يستطيع مقاومة إغراءات المال والنجومية التي تتنازل عن الجودة مقابل الربح، وعن الجديَّة مقابل الشهرة، وعن المصداقية مقابل الإثارة، وعن الإبداع مقابل النمطية؟ المحصلة العامة: تراجع استقلال المثقف أمام ضغط المستهلك والإعلان التجاري..
الزبدة، أن دور المثقف الذي عهدناه بدأ يتلاشى، فثمة مبدعون فكراً وثقافة ونقداً بالكاد نتذكرهم الآن، رغم أنهم ما زالوا ينتجون في الزوايا المهملة.. بعضهم طواه النسيان، وبعضهم ما زال ينبثق من الزوايا الهامشية بمواقع الإنترنت، مراهنين على طريق شائك وعر يجمع بين الإبداع والجماهيرية.. لكنه حتى الآن لا يشكل جزءاً مؤثراً في المشهد الإلكتروني.. فهل يكتب له النجاح، فضلاً عن البقاء؟