د. فوزية البكر
في بداية كل فصل دراسي تتوافر الفرصة لي للقاء مجموعة جديدة من الطالبات في مقرر جديد. ولأن لقاءنا الأول في العادة يبدأ بالتعارف فسرعان ما ينزلق السؤال إلى: من أين أنتِ؟!
تتدحرج الهويات الفرعية في كل مرة نبدأ فيها اللقاء؛ لتحتل فضاء القاعة منعكسة في اللهجة حيث لا اختباء، لكنها أيضًا تظهر في طرق التواصل والتعبير واللباس، وغيرها من شظايا هوياتنا المتنوعة القادمة من شتي مناطق المملكة بتنوعاتها اللغوية والمعيشية والسلوكية الواضحة.
لا ضير في ذلك؛ فثراء الأمة يكون بمكوناتها المحلية المتنوعة التي تنتهي بإثراء المكون الوطني الواحد، لكن هل نبقى على ذلك؟
يقول المفكر والروائي السعودي تركي الحمد في إحدى تغريداته: (تتمتع المملكة بثراء ثقافي بتعدد مناطقها والثقافات الفرعية لتلك المناطق. وهذا عامل قوة للمملكة فيما لو أُحسن التعامل مع هذه التعددية. ولكن هذه التعددية بأشكالها كافة إنما تتفاعل وتمتزج في إطار خيمة واحدة، هي خيمة الوطن، وتحافظ على هوياتها الفرعية في ظل الهوية الشاملة.. الهوية الوطنية).
وحقًّا، فالمملكة العربية السعودية تتميز بتنوع جغرافي وبيئي وثقافي لا يصدق وجوده معظم الناس خارج المملكة. فعلي سبيل المثال نلحظ أن الصورة المثبتة في الذهن العالمي للمناخ في بلادنا أنها بلاد صحراوية مع حرارة تغلي إلى ما فوق الأربعين. لا أحد يتوقع أن درجات الحرارة فعلاً تنخفض إلى ما دون الصفر شتاء في بعض المناطق، ولا أحد يتخيل أن في المملكة جبالاً خضراء مثلاً في الشمال، أو سواحل رملية خلابة في الغرب، أو غابات بلا حدود في الجنوب بكل ما يحمله معنى التنوع الجغرافي والمناطقي والثقافي من معنى.
لا أحد مثلاً يصدقني حين أذكر لهم أنني أستعمل حديقة منزلي الصغيرة ما يقارب سبعة أشهر في السنة (رغم تزايد أيام العج والغبار للأسف)، لكن المناخ حتى في مدينة كالرياض، ومع مكيف صحراوي متنقل، يمكن أن يُحتمل.
المملكة بالطبع لا تتمتع فقط بالتنوع الجغرافي والمناخي والبيئي، بل - كما أشرنا - تحفل بالتنوعات الثقافية والمحلية، وبالهويات الفرعية لكل منطقة التي تتشكل من كل ما تقدمه مناطق المملكة باختلاف تضاريسها وطقسها وناسها من طرق في المعيشة والتزاوج والأعمال والمنتجات والسلوك وطرق التواصل.. وهو ما يعني أن مناخات المملكة في تنوعاتها وتراثها وآثارها هي ثروات مخزونة، لا يعلم عنها إلا القليلون.
فمتى يحين الوقت لنا لتعريف أنفسنا أولاً ثم العالم به؟
هذا يقودنا لتأكيد قوة المكونات المحلية التي نتمتع بها، لكنها لم تكتشف بالشكل العلمي والوطني بما يجدر بها أن تظهر به للعالم، وللأسف تم استخدامها في مماحكات قبلية ومناطقية تعيسة، تؤكد الفُرقة والتشرذم، وتضيق آفاق مَن يعيشون خارج حدود المدن الكبرى بما يجعلهم عند أي قلق أو التباس أو مشكلة عائلية أو مالية يهرعون للاحتماء بمكونات القبيلة والمنطقة والعائلة، وغيرها من رموز الهويات الفرعية.
قبل سنوات عدة، ورغم الجهود الحثيثة لبناء الدولة الحديثة في المملكة، إلا أنه لم يكن هناك مشروع حضاري واضح باستراتيجيات مستقبلية محددة. اليوم لدينا رؤية واضحة وحازمة لبناء دولة ذات اقتصاد حقيقي، وبأيدٍ سعودية فتية؛ وهو ما يعني الحاجة إلى استخدام الموارد كافة التي نملكها، وما أكثرها، ولعل أحدها، الذي نتحدث عنه اليوم، هو ثراء مكونات الهويات والثقافات الفرعية بإمكاناتها التراثية والبيئية والثقافية التي ستكون مصدر رزق لأبنائها، ومصدر فخر وانتماء لنا كوطن.
التشديد على أهمية العناية بتنمية المكونات الفرعية في ظل الدولة الوطنية الواحدة يؤكد لدى المواطن أينما كان انتماءه لدولة وطنية واحدة، اسمها المملكة العربية السعودية؛ إذ مهما تنوعت المدن التي قدمنا منها، ومهما كبرت القبائل التي نحمل اسمها، فلن نجد لها جدوى أو معنى إلا بوجود دولة واحدة تحت حكم سياسي مستقر كالذي نتمتع به الآن تحت قيادة مليكنا سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده أمير مشروعنا الحضاري الكبير الأمير محمد بن سلمان، بما يؤكد اللحمة الوطنية التي يمثلها يومنا الوطني الذي سنحتفل به بعد أيام، وهذا يعني ضرورة إخضاع المعاملات كافة، خاصة في إمارات المناطق، لهذا المفهوم؛ ليتأكد دفاع الدولة بكل أجهزتها عن مفهوم الدولة الوطنية الواحدة في ظل التعدد المناطقي والثقافي الذي تتمتع به المملكة.
حفظ الله وطننا آمنًا مستقرًّا.