د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** على الرغم من وعورة الطريق لضيقه وتعرجاته ووجوده عند أقدام «جبل صنِّين» على مسافة ألف متر من قمته فقد قاد سيارته المستأجرة الصغيرة نحو «بِسْكنتا» صعودًا إلى «الشخروب» كي يستعيدَ ذاكرة قراءاته الأولى لميخائيل نعيمة 1889-1988م، ويقف على كوخه ومعتزله وقبره، ويشهد جانبًا من حياة آخر أعضاء الرابطة القلمية العشرة، العائد من مُهاجَره الأميركي بعد عام من وفاة صديق عمره «جبران 1883-1931م».
** لم تكن هذه زيارته الأولى للشخروب بل لعلها الرابعة أو الخامسة؛ فلدى صاحبكم رغبة في الوقوف على الآثار الشخصية المرتبطة بالرموز متى وجدها متاحةً كما صنع مع جبران في «بْشَرِّي» والريحاني في «الفريكة» ومارون عبود في «عين كْفاع» وغيرهم في غيرها، ووجد نفسه منقادةً لإعادة قراءة سيرة «ناسك الشخروب» بأجزائها الثلاثة، وتوقف حيث لم يفعل من قبل عند الخلاف الحاد الذي نشرته صحيفة بيروتية قديمة اسمها: (البلاد) بعد صدور كتاب نعيمة عن جبران وانتقاد الريحاني له بحجة نشر ما لم ينبغِ نشره عن حياة جبران الشخصية، ولا سيما النسوية منها، ورد نعيمة بما هو أكثر حدةً عرَّى فيه مواقف الريحاني الخاصة من جبران، وقد وثق المقالين في الجزء الثالث من «سبعون».
** والموضوع هنا متصل بثلاث قضايا؛ الأولى: عدم عنايتنا بآثار رموزنا بما فيها أماكنُ وأدواتُ ووسائط كتاباتهم وقراءاتهم وملابسهم ومنامهم ومقتنياتهم، وربما لا تعني كثيرًا لبعضنا أو لمعظمنا لكنها تعطي معاني كبيرةً لمن هم مثلنا، والإفاضة هنا لا تضيف لكنها قد تفتح نافذةً للعناية بالكبار الذين أضاؤوا سماء الثقافة المحلية على مدى عقود، وحين نفتش عنهم لا نجد شخوصهم وإن احتفظنا بشيء من نصوصهم.
** أما الثانية فعن السيرة «الغيرية» التي يكتبها أحدٌ عن أحد؛فهل المطلوب تمجيدُ المكتوب عنه والاكتفاء بشمائله والإغضاءُ عن مثالبه وتقديم صورةٍ وضيئة حوله، أم أن الحقيقة «كما هي» ستعين على قراءة الراحل «كما هو» والإجابة عن استفهاماتٍ قد تبقى معلقةً حين تُغفل السيرة بعض الصور السلبية أو تبالغ في تضخيم السمات الإيجابية، وهو الاستفهام نفسه الذي تطرحه السيرة الذاتية التي تحرص على تلميع الرحلة الحياتية وجمال مرتحِلها ولو نأت عن الحقيقة أو جانبتها، وربما كان الصمتُ عن بعض الصفات أجدى من أن نسم شخصًا أنه حليم وهو غضوب أو زاهد وهو مستكثر أو مؤْثر وهو مستأثر، وهكذا، ولن يعيبَ شخصًا عدُّ نقائصه كما لن يضيف إلى سواه عزوُ ما ليس فيه إليه.
** موقفان في موقف قد يلائمهما تفكير وتقدير كي لا يجيء أولادنا وأحفادنا المنغمسون في عولمة نجومهم فلا يرون آباءهم وأجدادهم وموروثهم، أما الموقف الثالث فيمس العزلة والاعتزال ولعل له مساحةً قادمة بعون الله.
** الأثر كتاب.