د.محمد بن عبدالرحمن البشر
جيل يعيش بيننا رأى المواطن الكريم يعمل موظفاً وتاجراً ومزارعاً وبناء، وغيرها من الحرف الميدانية، وكانت النساء يشاركن في الحقول وجلب الماء من البئر بالإضافة إلى أعمالهن المنزلية من تربية للأطفال وإعداد الطعام ونظافة المنزل وغيرها، وكان الجميع يعملون بالبساطة المألوفة آنذاك، لم يكن في المنازل خدم إلاّ ماندر، ولم تعتد النساء على البقاء في المنزل إلاّ في النزر اليسير، لم تكن الأموال متاحة، ولم تكن سبل العيش متوفرة دون عناء كافٍ، لكن الحياة سهلة المتطلبات، تلفها بساطة وقناعة، وكانت المهارة تلعب دوراً كبيراً في حياة الناس، فالبناء الماهر لديه ميزة لا تتوفر في غيره، لهذا فلديه مصدر رزق يعتمد عليه بجهده الجسدي ومهارته، ومثله الجزار والحداد وغير ذلك من المهن الكريمة التي لولا أولئك النفر لما نشأت البلدان، ولاتمت عمارة الكون، وهناك جزء من المجتمع رحل يتنقلون بمواشيهم ليحلوا أينما حل الريبع، وبئر الماء للارتواء، وفي الصيف يفدون إلى القرى والبلدان ليبيعوا مالديهم من أغنام وجمال، وماصنعوه من أقط، ليشتروا بثمنه تمراً ودقيقاً وزيتاً إن توفر، ليكون رفيق دربهم في الفضاء الجميل غير المتناهي عند النظر إليه، كان هذا دأبهم قروناًَ، وقد تصيبهم فاقة عند الجدب وعدم نزول المطر، لكنهم يديرون أمورهم بما تيسر لهم، ولقد رأى البعض ممن أدرك ذلك الزمن رجالاً صبورين، يحفرون الآبار بمعاول بسيطة ثم يطورونها بالحجارة.
هذا الجيل يعيش بيننا، أدرك ارتفاع الأسعار الكبير في النفط، وأثرها على الكثير من أنماط المعيشية والحياة الاجتماعية، فقط كان تغييراً كبيراً بحق لمسه أولئك البعض وعاشوا. فتحت أبواب الابتعاث للجميع، فذهب الكثير إلى أقطار العالم، وخبرتهم في الأسفار محدودة، فلم تكن الظروف المادية تساعد قبل ذلك على السفر إلى خارج البلاد، واستطاع الكثير منهم ولله الحمد التأقلم والعودة إلى الوطن للمساهمة في بنائه، بينما تعثر القليل جداً منهم، وهذه دلالة على أن الشاب السعودي قادر على المشاركة والإبداع متى ما أتيحت له الفرصة، امتلأت الجامعات بالطلاب، وكثر عدد أساتذة الجامعات السعوديين، وساهم العائدون في فترة البناء المتسارعة، وكانت الشهادات العلمية هي الأساس في تقييم المواطن.
صاحب ذلك تغيير كبير جداً في حياة الفرد والمجتمع، فقد ركن البعض إلى الاعتماد على العاملين في المنزل من عاملات وسائقين وطباخين وغيرهم، لمن أمكنه ذلك، وأصبحت العمالة الوافدة هي العماد الأساس في معظم أوجه الخدمات، ولم يعد كثير من السعوديين راغبين في المساهمة في ذلك الميدان الهام، وكانت المملكة ميداناً فسيحاً تدرب فيه عدد من أبناء الجاليات من جميع أقطار العالم، والذين ساهموا مشكورين مساهمة فعالة في البناء، أضافوا إلى المجتمع السعودي كثيراً من الثقافات الإيجابية وبعضاً من السلبيات، واستمرت الحال لعقود متوالية، حتى بعد انخفاض أسعار النفط انخفاضاً كبيراً، فقد تشبع المجتمع بفكرة الاعتماد على العمالة الوافدة، وترسخ في أذهان الأجيال اللاحقة أنه يصعب على المواطن السعودي المشاركة في الأعمال ذات الطابع الخدمي، وكان الاستغراب ظاهراً بعد أن أخذ السعوديون يعملون بكفاءة عالية في مجال الخدمات البنكية وكانت تلك إشارة إيجابية كبيرة.
في ظل التوجيهات السديدة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله-، تسارعت الخطى صوب إتاحة الفرصة للشباب السعودي للعمل في جميع الميادين بما فيها ميدان الخدمات بكل صورها المختلفة، ولقد كان مثار فخر واعتزاز عندما يذهب المرء إلى الأسواق ويرى الشباب السعودي عند منافذ البيع في المراكز الكبيرة، كما يراهم يعملون بجد في المطاعم والمقاهي وغيرها من الخدمات، إضافة إلى توجههم إلى الانخراط في التقنية بشتى صورها.
هنا تحول مفهوم كان سائداً من قبل إلى مفهوم جديد، وهو الاعتماد على المهارة والكفاءة أكثر منها على الشهادة، وأصبح بإمكان المبدع الذي لا يحمل شهادة كبيرة أن يتربع على مكان مهم في القطاع العام والخاص، وأصبح بإمكان المبدعين النجاح في ميادين شتى بمجرد الإبداع في إيجاد فكرة جديدة يمكن بها المساهمة في تقديم خدمة يرغبها المجتمع، وأصبح الميدان واسعاً لكل فرد سواء كان يحمل شهادة عالية أم لا أن يقدم نفسه ولمجتمعه ما يعجز عنه صاحب الشهادة عن تقديمه.
أنه بحق مفهوم جديد يعتمد على المهارة والإبداع، وهذا النمط هو السائد في العالم المتقدم في الوقت الحاضر.