محمد آل الشيخ
العرب عموما مشغوفون بالخطابة والجعجعة على رؤوس المنابر، بينما لم يتعودوا أن يسألوا أنفسهم وهم يسمعون تلك الخطابات البليغة المزلزلة سؤالا بسيطا مفاده: هل ما يقوله هذا الخطيب، أو ذلك الزعيم، ممكن أن يتحقق على أرض الواقع؟.. هنا تبدو جلية مأساتنا وعلة العلل التي تعاني منها الثقافة العربية قاطبة. عبدالناصر - مثلا - كان خطيبا مفوها، تأسر خطبه المستمعين، وكان متحدثا ماهرا، وصاحب شخصية كاريزماتية آسرة، ومازال كثير من العرب يتذكرون خطاباته العنترية التي يزعم فيها بأنه سيلقي بالإسرائيليين في البحر، ويعيدهم إلى حيث أتوا، لكنه في عام 1967 وفي خمسة أيام فقط مُني بهزيمة ساحقة ماحقة، اكتشف بعدها عقلاء العرب - وهم قلة - أن تنميق الخطب وبيع الجماهير الآمال العراض، لم تكن إلا لعبا على الذقون، ومناورات كلامية، وإذا قيست بمقاييس العقلانية والموضوعية فإنها تكون كالضمآن الذي يطرد سرابا يحسبه ماء في صحراء قاحلة.
القادة الفلسطينيون هم كذلك نسخة من عبدالناصر، فهم يخاطبون آمال وطموحات الجماهير الفلسطينية المكلومة بالخطب الرنانة الفارغة، والمُبشرة بعودة الحقوق الفلسطينية المسلوُبة؛ ولعل قادة منظمة حماس في غزة هي مثال نموذجي لما أقول؛ فحماس تتبنى الخطاب المتأسلم الذي يخاطب العواطف الجياشة، لكنها لا تملك من عوامل القوة في مواجهة القوة الإسرائيلية إلا تلك (المواسير المحشوة بارودا) التي يطلقونها بين الفينة والأخرى على إسرائيل ولا تصيب ولو نعجة من نعاجهم؛ والسؤال الذي تفرضه العقلانية في نهاية المطاف: من المستفيد؟ .. إسرائيل طبعا فهي تتسع وتنتقم وترد بعنف، ثم تتخذ من هذه الصواريخ المهترئة التي تقذف بها حماس على بعض المستوطنات ذريعة للتعامل مع الفلسطينيين بالقوة، وفي الوقت ذاته تزيد من رقعتها الجغرافية، في حين أن فلسطينيي (المقاومة والصمود - كما يصفون أنفسهم لا يجنون عمليا على الأرض إلا الفلس والهزائم المتكررة.
إسرائيل تتعامل مع القضية الفلسطينية بذكاء ودهاء، وتحاول أن توظف أخطاء الفلسطينيين بالشكل الذي يوحي للعالم بأنها دولة مهددة، وأن ما تمارسه تجاه الفلسطينيين من قتل وتدمير هي مضطرة إليه لكونها تمارس حق الدفاع عن النفس وعن وجودها، أي أن الفلسطينيين يمارسون بخطاباتهم وتهديداتهم الجوفاء الفارغة ما ينقذ إسرائيل ويرفع الحرج عنها، بل وأجزم أن خطب وعنتريات حماس التي نسمعها بين الحين والآخر تهبط على قلوب الإسرائليين بردا وسلاما.
لذلك فإنني أرى وعن قناعة تامة، أن الجنوح إلى السلام والرهان عليه هو الخيارالوحيد، الذي من شأنه أن يجعل كل شعوب العالم، بمن فيهم بعض الإسرائيليين، يقفون معهم، بينما أن المقاومة والتصدي والتحدي والعنف لن يزيد القضية الفلسطينية إلا مزيدا من التورط. صحيح أن مايقدمه العالم اليوم من حلول أقل وبكثير من الطموحات الفلسطينية، لكن الصحيح أيضا أن أوراق اللعبة أغلبها في يد الإسرائليين ومن يدعموهم، وفي مقدمة الداعمين هي الولايات المتحدة، أقوى قوة على سطح الأرض.
وأخيرا أقول : العقل والموضوعية يتطلبان أن يتعامل الفلسطينيون مع معطيات (ماهو كائن) ويدعون عنهم الآمال العظام التي تحور وتدور حول (مايجب أن يكون)، وليس لدي أدنى شك - ودعك من جعجعة المجعجعين - أن الفلسطينيين سيصلون في نهاية المطاف إلى هذه الحقيقة مجبرين. خذ ماتستطيع أن تأخذ ثم لكل حادثة حديث.
إلى اللقاء