د.عبدالله بن موسى الطاير
والسيارة تنعطف إلى اليسار تاركة خلفها الشارع الثاني والأربعين، وحينما كنت مستغرقًا في تصفُّح طبقات مبنى الأمم المتحدة من الأعلى إلى الأسفل، توقف بصري فجأة على بيرق العز وعَلَم المملكة العربية السعودية الذي يخفق بشهادة التوحيد على سور المبنى الخارجي للمنظمة الدولية. للحظة شعرت برعشة تسري في جسدي مهابة وإجلالاً لوطن اعتاد الأنفة والشموخ. تنفست بعمق، وتأوهت بصوت استرعى انتباه السائق دون أن يصرفني عما كنت فيه، لكني قرأت السؤال في عينيه، فأجبته: إنه عَلَم بلادي، ولي منها يوم واحد فقط، ومع ذلك يستدعي آهاتي وعبرتي الحنين إليها.
وكأنني فتحت عليه بابًا من جهنم عندما تغيَّرت ملامحه وهو يستعيد ذكرياته شابًّا، وصل إلى نيويورك معارضًا سياسيًّا لنظام بلده، وها هو يشيخ في الغربة التي لم تستطع سنواتها المريرة أن تنتزع من صدره تفاصيل الوطن كما أثقلت وجهه بتجاعيد الزمن. ووجدتني تلقائيًّا أتمتم مع الشاعر:
بلد شبابي ماد بين غصونها
وطفولتي رقصت على همساتها
بلد دمي من عطرها ومشاعري
من نسجها وحشاشتي من ذاتها
لم يطلب مني الترجمة، ولم أعرضها عليه؛ فقد أخذني المشهد بعيدًا إلى عام 1945م؛ إذ أسست خمسون دولة هذا الكيان الدولي، وكانت المملكة العربية السعودية واحدة من تلك الدول التي وقَّعت على الميثاق في سان فرانسيسكو. السعودية في ذلك العام لم تتجاوز ربيعها الثالث عشر، دولة ناشئة فقيرة ماديًّا غنية قيميًّا، دؤوبة في بحثها عن السلام، متمسكة بالخير لها وللعالم. وضعتها همم رجالها العالية جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى وفرنسا والصين والاتحاد السوفييتي آنذاك.
المجد لا تصنعه الثروات، ولا تؤسسه حملات العلاقات العامة والرشاوى والمؤامرات، إنه موقف، وللمواقف رجالها، ومن حسن حظ المملكة أن رجالاتها يحملون وطنًا لا كمثله الأوطان. لقد أسهمت المملكة في تأسيس هذا الكيان الذي قُصد منه «حفظ السلم والأمن الدولي». وتحقيقًا لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم، ولإزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرع بالوسائل السلمية، وفقًا لمبادئ العدل والقانون الدولي، لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها، و«إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب، وأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام»، و«تحقيق التعاون الدولي لحل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية، وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعًا، والتشجيع على ذلك إطلاقًا بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء». ومنذ ذلك الحين والمملكة عضو فاعل في هذه المنظمة الدولية المهمة.
ليس هذا فحسب، وإنما أسهمت المملكة في تأسيس جامعة الدول العربية قبل تأسيس الأمم المتحدة، ثم أسهمت عام 1969م في تأسيس ثاني أكبر منظمة دولية بعد الأمم المتحدة، هي منظمة التعاون الإسلامي، واستضافت مقرها في جدة. وفي عام 1981م أسهمت في تأسيس مجلس التعاون الخليجي، واستضافت مقره في الرياض. دولة تغلبت على ظروفها الاقتصادية، ونهضت بمسؤولياتها لتحقيق السلام في العالم، وانخرطت في بناء المنظمة الدولية الأكبر، وتستضيف مقر منظمتين دوليتين على أرضها، وتنهض بمسؤولياتها تجاههما، ثم تلحق ذلك بتحالف دولي عسكري لمحاربة الإرهاب، هي - بلا شك - دولة عظيمة، يتشرف الإنسان بالانتماء إليها.
من خارجها، ومن داخل أروقة الأمم المتحدة، أقول لبلادي وقيادتي: كل يوم وطني مجيد ونحن أقوى، وأكثر تماسكًا، وإلى تحقيق الطموحات أقرب بحول الله.