د. جاسر الحربش
فيما يأتي ترجمة شخصية من تأملات الفيلسوف التنويري بلايز باسكال من القرن الثامن عشر كمحاولة للتعريف بدور الفلسفة بعلاقة الإنسان بالكون والحياة، وأختتم المقال بتعليق مقارن.
في نهايات الأسئلة ما هو الإنسان في الطبيعة؟ إنه لا شيء بالنسبة «للامتناهي»، وهو كل شيء بالنسبة للعدم الذي جاء منه. إنه الوسط بين العدم والكل، لكن الإنسان بعيد جدًّا عن إدراك الأقاصي؛ فهي تعني له نهايات الأشياء البعيدة، وتبدو مناشئها الأولى مغيبة في أسرار لا يمكن تفكيكها. الإنسان في الوقت نفسه عاجز عن رؤية اللاشيء الذي أتى منه، والنهائي الذي وجد نفسه بداخله. إذًا ما الذي يتبقى له غير ذلك البصيص الذي يستطيع إدراكه في الوسط مع استمرار اليأس الأبدي من التعرف على منشئها ونهاياتها؟ كل الأشياء بدأت من العدم، وتنتقل إلى «اللامتناهي»، فمن ذا الذي يستطيع سبر هذا المسار المذهل؟ إنه فقط الذي أوجد هذه الأعاجيب، ولا أحد غيره يستطيع ذلك.
هل نعرف إذًا إمكانياتنا الحقيقية في كوننا شيئًا وليس كل شيء؟ إنَّ ما نحصل عليه كوجود لا يتيح لنا التعرف على المبادئ الأولى التي جاءت من العدم، كما أن القليل الذي نحصل عليه في وجودنا يعمينا عن رؤية اللانهائي. إن إدراكنا يقف عند الدرجة التي يمثلها تكويننا الجسدي في الطبيعة الشاسعة اللامتناهية.
وبما أننا في كل الأحوال محدودون في القدرات والإمكانيات فإن هذه الحقيقة التي تمثل الوسط بين بُعدين لا متناهيَيْن تحدد لنا كامل ما نستطيع. وكأمثلة: إن الحواس التي نمتلكها لا تستطيع التقاط الأقاصي من المؤثرات: الضجيج العالي يصيبنا بالصمم فلا نسمعه، والنور الباهر بالعمى فلا نراه. الابتعاد الكبير للأشياء عنا مثل قربها الشديد يحجب الرؤية، مثلما أن حديثًا متناهي الطول أو متناهي القصر يطمس المعنى في الكلام، والكثير من الحقيقة لا يزيد الوضوح بقدر ما يجعلنا مشوشين. إنني أعرف أناسًا لا يستطيعون استيعاب أن طرح صفر من أربعة يجعل الباقي صفرًا. المبادئ التي تصل إلينا ونستقبلها قبل غيرها تحصل على دلالات برهانية أكثر رسوخًا من المتأخرة، والكثير من التسلية يتحول إلى إزعاج، كما أن التناغم الزائد في القطعة الموسيقية يجعلها غير مستساغة، والكثير من الإحسان والتصدق يثير التوتر والتوجس؛ ذلك لأننا نتمنى الحصول على شيء نستطيع رده بأكثر مما حصلنا عليه.
نحن لا نشعر بالحرارة القصوى ولا بالبرودة القصوى؛ فالكميات الزائدة من الشيء تتحول إلى عدوة للإحساس وغير مستساغة؛ فلا نحس بها، ولكن نعاني منها ونبتعد. إن الجرعة الفائضة من الشباب أو الشيخوخة، أو من المواعظ والتعليمات، تعيق النمو العقلي والتفكير. باختصار: إن الأقاصي الواقعة على الحدود الأبعد من الوسط تصبح بالنسبة لإحساسنا كأنها غير موجودة، أو كأنها لم تكن، فهي إما تنزلق منا، أو نحن ننزلق منها. ذلك هو الوسط الذي نستطيع التحرك فيه بعيدًا عن العدم واللامتناهي. (انتهى الاقتباس من الفيلسوف باسكال).
التعليق: أشد الناس عداوة للفلسفة وتوجسًا منها هم الذين لا يفهمونها، ولم يحاولوا الاقتراب منها. العلوم الفلسفية ببساطة تبحث عن الحقيقة في كل شيء قابل للقياس المنطقي يتعلق بالإنسان والحياة والكون، ما عدا الروحانيات التي لا تخضع للقياس، ومنها الإيمان كعلاقة بين الإنسان وخالقه.
فَقَد المسلمون علاقتهم بفلاسفتهم الكبار قبل مئات السنين بسبب المزيج من القمع والحكم بأن الفكر الفلسفي هو العدو الأشرس للتدين النقي. الناتج من هذه العدوانية هو ما نراه من التخلف والإقصاء والتكفير والإرهاب باسم الله. بالرغم من بطلان علاقة الاستدلال بين الفلسفة والدين هذه فما زالت النظرة سائدة، والفلاسفة المسلمون الكبار ما زالوا في المنفى.
في الحضارة الغربية الأوروبية التي تقود الحضارة البشرية منذ أربعة قرون حدث للفلاسفة العكس. عصور ظلام الغرب وتخلفه انتهت في القرن السابع عشر، وقبل ذلك كان التدين والفلسفة في خصومة دموية توجب الصلب والتحريق لمن يتجرأ على التفكير، متهمًا بالهرطقة ضد الذات الإلهية، وكانت آنذاك السيادة للخرافة والجهل والطاعون والتخلف والحروب باسم الإله.
ما لبث المؤرخون ورجال الدين أن اعترفوا بأن الشعلة التي أنهت التخلف ومساوئه المروعة كانت نتيجة التشارك بين الحكام المستنيرين وفلاسفة التنوير الذين تكاثروا مثل زهور الربيع في أوروبا، وأن التنوير الفلسفي لم يلغِ التدين لكنه اقتلع منه الخرافة وشراسة العدوانية.
الآن مما يحسب للحضارة الغربية أن فلاسفتها الرواد ما زالوا يتصدرون الدراسات الأكاديمية واللاهوتية والتربوية، ولم تنقطع الصلة معهم، ولم يتم إعلان البراءة منهم، وتتصدر تماثيلهم الميادين.