د. خيرية السقاف
للمرة الأولى يصيبني الموت بذهول فجيعتي، فأُلجمُ لساعات لم أقوَ على الكلام، ولا التفكير!..
أيام قليلة التي لم أسمع فيها صوتها الودود، وكلماتها الحكيمة، ونبرة صوتها الموغلة في سكينة الإيمان، وضحكتها المختطفة من حقول الرضا، وأعماق الاطمئنان..
قادتني اللحظة المفعمة بالخبر لأن أجده أمامي مسطوراً بلوعة العزاء فيها، ومن الذي يعرفها ولا يبكيها؟!..
من الذي عاصرها، زاملها، عمل معها، بادلها الفكرة، ماثلها القيم، شابهها الروح، والخلق ولا يبكيها؟..
من الذي تعلم منها العطاء، والإخلاص، والنقاء، والسمو، والصفح، والترفع عن الصغائر، والتقوى، والخشية من الله، والزهد في الدنيا، وما عند الآخرين، والثقة، واليقين ولا يبكيها؟!..
من الذي يتنفس صبحه على دعائها، ويهجع ليله على دعائها ولا يبكيها؟!..
ماتت «فريدة» في محرابها، بين يدي ربها تصلي الضحى..
يا للبلسم، والدواء، يصب على كل جزء في النفس، والقلب، والعقل انتفض هلعاً لفقدك يا فريدة ليس من الموت، فهو الحق ينتظرني، بل من فقدي «حبيبة» لم أودعها هي أنتِ..
«فريدة» رفيقة عمر، وموئل وفاء، وسيدة الطهر يطل من جوفها من مبدتئها، لمنتهاها..
ماتت فريدة، غادرتني كالذين غادروا بجزء مني، ولي منها آخر رسالة..
وصدى آخر مهاتفة طالت بيننا كأنها تودع بعضاً من صداها في ذراتي..
غيبني عنها، أو غيبها عني شأن دنيوي لأيام ليست كثيرة، ولأنها في المعية لا تغيب، لم أفتقد رسالتها المعتادة فجر كل جمعة بعد صلاة الصبح بدعاء حميم، أو ذكر موحٍ، أو صلاة على خير من نجتمع على سنته، ونسأل الله في الفردوس الأعلى رفقته، بعد أن يسقينا من حوضه ماءً هنيئاً لا ظمأ بعدها، عليه الصلاة والسلام.. وفي الخاطر كان موعدنا الفجر نتحدث..
ولأنها «الفريدة» التي تتفرد في الصفات، والسمات، يجتمع إليها الجمال، والود، وعذب المكنون، وصفاء المثول، وصدق المبدأ، وخلاصة السلام، كانت في النداء فريدة، وفي الفعل فريدة، وفي الصدق فريدة، ولا أزكيها على ربها وفي التقوى فريدة..
هذه الدنيا لم يكن في بالها ما تشغل به منها، وهؤلاء الناس ليس لهم منها غير الصلة في واجب، والعطاء عند النداء، والتجاوز عند كشف اللثام..
تصل القريب والبعيد، والصديق والزميل، تؤدي أكثر من الواجب، وتضفي على الواجب واجباً لها لا تغفله المواقف..
لسانها رطب بالخير، وعينها مشبعة بالنعمة، ويدها تشد عضداً، وتقيم وتداً، وتفتح لكل الناس أبواب قلب طيب، ونفس مدرارة بالخير..
فريدة يا حبيبة القلب، لأول مرة أشعر بهذا الألم يشق صدري، ويدر عيني، ويأخذ بتلابيب دهشتي كيف لم أسمعك قبل أن تصمتي حتى ألتقيك يا غالية؟!..
أيام قليلة غبنا فيها، واليقين أنه القدر، والمشيئة فهناك ما يخفف، وهناك ما يلطِّف..
ليرحمك الله يا صبورة، يا صادقة، أمينة، يا وفية، جميلة، يا سيدة الفضيلة، والخير، والطيبة والصبر، والصفاء....
شريط العمر يمر بعبقك، وطيبك، بوجهك ذي الملامح النورانية، وابتسامتك ذات الرسائل العميقة، وخاتمة كلامك الروحانية، وأنت هنا تنبضين لا تموتين..
رحمك الله وأكرم نزلك، ووسع مدخلك، وجعل قبرك روضة في الفردوس، ونورها بما تلوتِ من القرآن، وأمنتِ بالرحمن، وقد ودعتنا وأنتِ تصلين، فليبعثك الله مع الصديقين الصالحين، ويجمعني بك في العليين يا «فريدة محمد قدح عسيري»..
عزائي لخاصتك، إخوتك وأخواتك، زميلاتك، وطالباتك، وقارئاتك، ولي معهم العزاء فيك موصول.
و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.