حمّاد السالمي
* تكلمت في مقالي هنا يوم الأحد الفارط: (http://www.al-jazirah.com/2018/20180930/ar2.htm)؛ على السياحة التي تأتي على هامش فريضتي الحج والعمرة. إن القيمة التاريخية التي تحتلها الأمكنة الكثيرة المرتبطة بالسيرة النبوية الشريفة في مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف؛ عظيمة وكبيرة، ولا تقدّر بثمن، وتشكِّل رافدًا مهمًا في صناعة السياحة التي شرّعت المملكة أبوابها مؤخرًا، وهي تعني الشيء الكثير لزوار الأماكن المقدسة، وللمشتغلين في هذا القطاع على حد سواء، وقد جاء الوقت الذي نستغل فيه هذا المنشط الاقتصادي المعرفي بكل حرفية وانفتاح دون تحفظ.
* إن كثيراً من آثار ومعالم السيرة النبوية، تعرّضت للتجنيب والتخريب في أوقات سابقة، انطلاقاً من تفسيرات دينية خاصة بأصحابها، فكيف لو جرى وضعها على خارطة الاستثمار السياحي..؟! وكثير من الحصون والقصور والبئار والدروب، عبث بها العابثون بحكم الأنانية والجهل، إضافة إلى بث ثقافة كراهة السياحة ومن يسيحون في المتنزهات والملاهي، بحجة المفاسد والمنكرات..! هذه ثقافة (عاداتية)، تصادم قطار السياحة، وتعادي بالتالي مقومات سيره، وتمانع في توطينه ووجوده في أنحاء البلاد، وهذا وقت وأدها دون رجعة.
* نعم لدينا -والحمد لله- مناطق جميلة في عموم الوطن، بينها غابات كثيفة، وشواطئ نظيفة، وجبال شاهقة، وأودية سحيقة، وصحارى واسعة. ولدينا كثير من الآثار الحضارية والعمرانية، ولدينا تراث ثقافي جم، وموروث اجتماعي ليس له مثيل. ونحن وإن كنا لسنا في جمال طبيعة سويسرا مثلاً؛ ولا في مستوى سياحة ماليزيا، ولا بهاء نياجرا، وآثارنا ليست مثل إهرامات مصر أو غيرها، ولا توازي عجائب الدنيا السبع المتناثرة في أكثر من بلد في هذا العالم، إلا أننا بحمد الله؛ أفضل حالاً من بلدان وأقطار عالمية وعربية كثيرة، ليس لديها بُعد حضاري ضارب في التاريخ، ولا تملك مقومات طبيعية وحضارية مثلما نملك، وهي مع ذلك؛ سبقتنا في الاحتفاء بالقليل الذي تملك من مقومات قليلة وبسيطة، فطوعتها وجعلت منها شيئاً مذكوراً.
* تمتلك بلادنا تنوعاً جغرافياً غير موجود في كثير من بلدان العالم، ولديها شواطئ طويلة جداً، وجزراً بحرية كثيرة، لكن كثيراً من أبنائها يجهلون هذه القيمة العظيمة لبلدهم، فقليل جداً من يعرف جزراً مثل فرسان أو أم القماري وغيرها، ونادراً ما نجد مساحة ضيقة على شاطئ البحر الأحمر أو الخليج العربي تصلح للسباحة، وإن وجدت؛ فثقافة كثير من الناس في التنزه، تكرس مبدأ الخروج للبر من أجل المزيد من الأكل، فهي لا تتجاوز الجلوس بجوار نار مشبوبة، أو قبالة شاطئ بحري، مع احتساء العصائر والشاي، وتناول الوجبات الدسمة، ثم تلويث مكان التنزه دون حياء أو خجل..!
* سوف نتحدث كثيراً لو أردنا، عن آثار تاريخية في كثير من المدن والقرى، ومنها آثار مرتبطة بالسيرة النبوية، وأخرى تعود إلى عصور ما قبل الإسلام وما بعد الإسلام، لكنا ما زلنا في ألف باء التعاطي مع هذه الكنوز الثمينة، التي لو ظفر بها بلد آخر غيرنا؛ لأصبح من أغنى بلدان العالم، بل لنافس بعائداته السياحية؛ ثروات بعض بلدان النفط.
* هل شغلتنا ثروات النفط عن ثروات السياحة والآثار..؟
* الواقع.. أن النفط بريء من هذا، وحتى النفط ذاته؛ كان في بداياته؛ في دائرة شكنا منه، لولا عزيمة (الملك عبد العزيز) - رحمه الله - وهمته العالية. إن ثقافتنا هي المعيق الأول لتقدمنا بصورة عامة، وهي المعرقل الرئيسي لاستثمار بنانا التاريخية والطبيعية في ميدان السياحة. إننا لا نتجاهل ونهمل آثارنا فحسب، بل نخرب هذه الآثار بأيدينا، وندمر بيئتنا بأنفسنا..!
* سيقول البعض بأني متشائم. وأقول: لست متشائماً، بل واقعي، لأني وقفت على ديار كثيرة في بلدي بها من الكنوز التاريخية والآثارية الشيء الكثير، لكني وجدت ثقافتنا الشعبية، تلك التي ترتكز على نمطية دينية، تمحو السطور المنقوشة، وتهدم الجُدر المرصوصة، وتردم البئار المفتوحة، وتشعل النار في المساجد التاريخية..!
* إذا لم نتخلص من ثقافة التصدي والممانعة، فلن يكون بمقدورنا لا حماية الآثار والمعالم التاريخية؛ ولا استثمارها سياحياً. إن جانب السلوك في التعاطي مع منجزات حضارية قديمة أو حديثة، يتوقف على فهم المتعاطي لقيمة ما يملك من منجز. لدينا الكثير الذي يمكن أن يجعل منا دولة منتجة للسياحة وليس مصدرة لها فقط، ولكنا كلما خطونا خطوة إلى الأمام، تقهقرنا واستسلمنا لثقافة منمطة، تتلبس بالدين تارة، وبالعادات والتقاليد تارة أخرى. مثل هذا الأمر؛ ينسحب بشكل أو بآخر؛ على ميادين أخرى ليست السياحة سوى واحدة منها.
* إن وجود هيئة عامة للسياحة والتراث الوطني منذ سنوات عدة؛ هو مقدمة لوزارة تأخذ زمام المبادرة في ترسيخ ثقافة سياحية عملية، تبدأ من حصر مكنوزنا التاريخي والأثري والجمالي في كل بقعة على التراب الوطني، فتحتضنه، وتحافظ عليه وتحميه، ثم تهيئ كل السبل لاستثماره سياحيًا للداخل والخارج. إن السياحة هي (ثروتنا النابضة)، وهي البديل المتاح للنفط: (ثروتنا الناضبة).