د.عبد الرحمن الحبيب
إذا كنا نشهد تحولاً سريعاً في وسائل التعبير والتواصل، تتراجع فيه الكلمة المكتوبة أمام الوسائل البصرية المسموعة، فإن التغيّر الجذري والصدمة الكبرى لم تحن بعد فقد نشهد قريباً اضمحلال القراءة والكتابة نفسها وربما بداية اندثارها مستقبلاً واستبدالها بنقل المعلومات والمعارف عبر الوسائل المشهدية..
الحالة المشهدية تختلف عن الكلمة المكتوبة بأنها تتوجه إلى جزء مختلف تماماً من الدماغ يستوعبها العقل بسهولة، حسب الدراسات العلمية. نحن نعلم أن الأحاسيس البصرية والسمعية تمثِّل حالة طبيعة غريزية للإنسان منذ ولادته بينما الحروف الكتابية هي رموز مخترعة لتلك الأحاسيس؛ رموز معقدة يظل يتعلّمها الطفل لسنوات عديدة. الآن، في المجال التربوي نلاحظ تزايد استخدام الوسائل السمعية البصرية في مناهج الدراسة باعتبارها أوضح وأسهل ومختصرة ومعبِّرة أكثر مقارنة بوسيلة الكتابة.
«اختراع ثقافتنا للكتابة والقراءة ما هو إلا حادث عابر. إنه عمل مصطنع ثقافياً طورناه، لكنه ليس ضمن طبيعة البشر. ولن نحتاج، بعد قرنين، لهذه الوسيلة لبث المعرفة» حسبما يقول عالم الأعصاب مارسيل جاست من جامعة كارنيغي ميلون، ولاية بنسلفانيا. يذكر جاست أن مخ الإنسان الأول مصقول بحس بصري دقيق وإمكانية المسح الواسع للمشهد ورؤية أقل حركة فيه: أسد في الظلال أم كرمة توت مخفية؟ أما القراءة فهي ملكة صعبة تقنياً تتطلب سنوات من التعليم، بينما دماغنا البصري يتعود دون أي جهد تقريباً على ألعاب الفيديو.
باختصار، الوسائل البصرية السمعية هي أسلوب أكثر طبيعية للبشر من الكلمة المكتوبة، وكل ما يفعله الإنترنت هو توظيفها في سياقها الطبيعي. ورغم أن الإنترنت يقوم بتوسيع القراءة عبر تمدد فضاء الكتابة من خلال نقل المطبوعات والكتابة الإلكترونية والرسائل النصية، لكنه خلق أشكالاً سردية جديدة في الإرسال والتلقي مثل: واتساب، سناب شات، انستجرام، تويتر، يدخل فيها الفيديو والرموز التشكلية كعنصر أساسي أو وحيد.. فقد يرد عليك صديق مُرحِباً مكتفياً بشكل وردة أو مؤيداً بشكل إبهام..
والأهم من ذلك، أن طريقة التلقي تغيَّرت مع انفجار المعلومات وتدفقها بانهمار متواصل؛ فحين يقضي الناس يومياً لساعات أمام الشاشة الإلكترونية فهم في الواقع يقرؤون كميات ضخمة لا يستطيع الذهن استيعابها. لذا، أصبحت القراءة سريعة وأقل تركيزاً ومجتزأة، وأكثر ميلاً للخبر الخاطف والمعلومة الفاقعة مع الصور ورؤوس الأقلام والتعليقات السريعة.. المعلومات صارت أكثر لكن التعمق فيها صار سطحياً، وبالنتيجة صارت القراءة أقل تأثيراً من الصوت والصورة.. فمشهد قصير قد يغني عن فصل من كتاب..
بيد أن عشاق الكتاب الورقي يصرون بأن الكتاب سيبقى! إنهم يفكرون بالتمني، ويحنون لرومانسية الماضي (نوستالجيا)، لكن عليهم التذكر أن الكتاب المطبوع كان ثورة على رومانسية الكتاب المخطوط الذي بدوره كانت ثورة كبرى على جمالية الثقافة الشفهية. ولعله من الطريف بهذا المقام ذكر استهجان سقراط أبو الفلسفة للكتابة وحنينه للشفاهية، فيما نقل عنه أفلاطون في «فيدرا» عن تفوق النقاش الشفوي حين كانت القراءة والكتابة في أثينا لا تزال جديدة بالقرن الخامس قبل الميلاد، فيما أفلاطون نفسه أعبر عن تشككه بها، ذكراً أن الكتابة هي ركيزة وعكاز وستؤدي إلى انهيار الذاكرة، وجعلها وسيلة مستسلمة لا تستطيع الدفاع عن حججها!
فما هو حال القراءة الآن؟ الدراسات والمسوح العالمية تقول: إن الغالبية لا يشترون الكتب، وأغلب من يشترونها لا يقرؤونها، ومعظم من قرؤوها لا يتجاوزون الصفحات الأولى. في ظني أنه سيأتي زمن لا يقرأ الكتب إلا مؤلفوها وبعض معارفهم، ليصبح الكتاب للزخرفة والترف، رغم أن مشاعرنا تهرب من هذا التوقع الكئيب. لنواجه الأمر، لماذا تشتري كتاباً موضوعه بين أصابعك بالإنترنت مجاناً مع خيارات أكثر وأدق وأوسع عبر مشاهد ممتعة؟
فهل هي نهاية الكلمة المكتوبة كما نعرفها؟ ربما هذا هو المصير الذي ينتظر القراءة والكتابة مع الجيل الجديد من وسائل الإعلام. هذه إجابة مجلة «نيوزويك» المشهورة عام 2005؛ وهذه المجلة بحد ذاتها تشكل شاهداً على هذا المصير حين توقفت ورقياً واندثرت عام 2012 لتعود عام 2014 بعد اندماجها مع مؤسسات أخرى بحلة جديدة مصارعة من أجل البقاء، فمتابعوها لا يتجاوزون 5 % مما كانوا قبل 2012 .
نعم، الكتاب التقليدي سيبقى ولكن مثل بقاء الكتاب المخطوط أمام الكتاب المطبوع، أو في أحسن الأحوال مثل بقاء الحصان في زمن السيارة. وحتى الكتاب الإلكتروني رغم أنه في تصاعد، فهو بالمقارنة مع الوسائل الإلكترونية الأخرى يغدو ضئيلاً، فمن يبحث عن موضوع يمكنه ضغط زر على جوجل -مثلاً- ليدخل في صلب الموضوع، وربما يجد الأجزاء التي يبحث عنها من الكتاب الذي كان يريد شراءه.
بطبيعة الحال القراءة عبر الإنترنت ستبقى على المدى المنظور، إنما قراءة الكتاب تقل تدريجياً على مستوى العالم بينما تقنية تنوّع الوسائط (صوت، صورة، انفوجراف..) والروابط المتعددة في تنامي، ومهما قيل عن متعة الكلمة المكتوبة فالزمن يتجاوزها تدريجياً بإغراء البصريات في الوسائل الإلكترونية التي أصبح أمامها الكتاب ينتمي لحقبة زمنية سحيقة بالنسبة للأجيال الناشئة..
هل بتنا في زمن ما بعد القراءة؟ ليس بعد ولكننا نتوجه إليه حثيثاً..