طوال ثلاثين عاماً من العمل الحكومي لم أسمع البتة أن مدير جامعة أو مدير مستشفى تنازل عن كرسيه برغبته الشخصية بعد أن ظل عليه لأربع سنوات أو ثماني وأكثر، بل لم أسمع عن عميد كلية أو مديرة مدرسة أو حتى عمدة حي فعلوا الشيء ذاته ليتنازلوا عن عرش بلقيس من الوجاهة والقمة الوظيفية ويلزموا البيت أو يفتحوا لهم مشاريعهم الخاصة.
قد نكون سمعنا عن ذلك في دول غربية وفي مناصب مرموقة كوزير للتعليم أو رئيس شركة طيران أو نائبا لرئيس شركة فيس بوك على سبيل المثال، كما حصل مؤخرا بعد خلاف في ترتيب الأولويات بين الشركاء من ناحية المداخيل المالية وسياسة الشركة منذ تأسيسها، ولكن أن يحدث وخلال أسبوع واحد استقالة المدير التنفيذي لشركة الكهرباء السعودية الوحيدة، ثم يعقبه نظيره في الهيئة الملكية للجبيل وينبع، فهذا مما أثار استغراب البعض واعتبروه دلالة على دخول البعض والنادر جدا من أصحاب الإدارات التنفيذية المهمة في عصر فكر مستنير، وفي حقبة جديدة من نوع مختلف عن غيرها من التغيرات على أكثر من صعيد تكون فاتحة خير لأيدلوجية في الإدارة والتخطيط والتنفيذ.
لا أخفيكم أن هذه الخطوة في الاستقالة حضارية ومتمدنة وشجاعة من الرجلين الكفؤين اللذين لا أعرفهما شخصيا، إذ عبرا عن قناعتيهما الشخصيتين بعد أن أديا أفضل ما يؤمل منهما على صعيد تطوير ورسم الاستراتيجيات ووضع اللمسات لمستقبل أفضل للشركتين، حيث قالا بعدها نريد أن نفسح المجال لوجوه جديدة تعطي لربما أفضل وأكثر مما أعطينا ويبنون كما بنى الأوائل، وأن ما نملكه في جعبتنا قد قدمناه ولا نريد أن نصبح كالشخص الذي يسير الأمور والأوراق بعد مضي سنوات عديدة، فيهتم بالعلاقات العامة والاحتفالات بعد أن استنفد عصارة فكره النير وخبراته المبدعة ولم يعد يملك شيئا جديدا.. فشكراً للشيحة والعتيبي في هذا النموذج الفريد في عالمنا العربي والشرق أوسطي.
إن متلازمة الكرسي لعشر سنوات فأكثر لمدير تنفيذي على مستوى الشركات والقطاع الحكومي هو جرعة سم في جسد العقول والإبداعات الأخرى، فمن غير المعقول أنه لا يوجد في المؤسسة التعليمية الجامعية أو المدرسية أو القضائية أو العسكرية أو غيرها ألمعي فذ غيره، فهذا خطأ منهجي في الإدارة البشرية ومهارات التفكير الاستقصائي وحلول المشكلات والعصف الذهني يستوجب أن يتم إحلال آخرين ولو بقوة القانون واللوائح والتشريعات لا أن تترك لانطباعات شخصية.
إن المأمول لأي مدير تنفيذي وجود خطة عمل وأهداف على المديين المتوسط والبعيد تكون مرسومة خلال أول مائة يوم من بداية التعيين، ويتم عرضها على متخصصين ذوي كفاءة وإذا أجيزت بالكامل أو بعضا منها يقوم بتحقيقها ويعطي بعدها مؤشرات لمستويات الإنجاز والتقدم على مدى أربع سنوات أو ست على الأكثر، ومن بعدها يترجل لتأتي حقبة أخرى بطموح ورؤية من نوع مختلف ليتم تحريك المياه حتى لا تكون راكدة، ولنا في هذا المثال أنموذجا يحتذى.
** **
- د. عبدالمنعم بن محمد القو
dr.algow@outlook.com