د. عبدالحق عزوزي
استعملت كلمة «الحوار» في عدة آيات قرآنية. ومنها قوله تعالى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} (الكهف-34) ومنها قوله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} (الكهف-37) ومنها قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} (المجادلة-1). والآية الأخيرة تدل على تطابق معنى الحوار مع معنى الجدل في الدلالة على إدارة القول بين متخاطبين في موضوع معين.
وللجدل والحوار مستويات متفاوتة، من سنخ الجدل. تدل عليها ألفاظ المناظرة والمحاجة والمناقشة. فالمضمون واحد، وإن تعددت أساليبه، وهو تبادل الآراء مع الغير، مخالفة أو مفاوضة، أو بحثاً عن الحق أو تأييداًَ للاعتقاد.
أما الحوار فهو المحادثة بين شخصين، يتحدث أحدهما، ويجيبه الثاني، أو يرد عليه ويراجعه، إما على أساس المساءلة والإجابة، وإما على أساس إبداء الرأي من جهة، ومراجعته من طرف الجهة الأخرى.
ولفظ «الحوار» في اللغة العربية مصدره «الحوار» وهو الرجوع في الشيء وإليه. ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} (الانشقاق 14-15). أي كان يعتقد أنه لن يرجع إلى الحياة بعد الموت، ويبعث حياً ليوم الجزاء. وفي نص الحديث: «من دعا رجلاً بالكفر وليس كذلك حار عليه. أي رجع إليه ما نسبه للغير».
وربما خصوا الحور بالرجوع من الصالح إلى الفاسد، قولاً أو عملاً، ومنه الحديث: «نعوذ بالله من الحور بعد الكور». فمعناه من الزيادة إلى النقصان. ومنه أيضاً الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت: «يوشك أن يرى الرجل من ثبج المسلمين للقرآن لا يحور فيكم إلا كما يحور صاحب الحمار الميت»، أي من أوساطهم.
ومن حيث التحليل اللغوي، فللحوار معنيان أساسيان:
أولهما معنى تبادل الآراء حول قضية محددة، بأن يعرض المحاور رأيه، فيراجعه صاحبه. ثم يتداولان هذه المراجعة، للإبانة عما لكل منهما من أفكار أو دلائل، إلى أن يصلا إلى الاتفاق المرغوب فيه.
وثانيهما السعي إلى إظهار الحق أو الصواب بالمراجعة لآراء المخالفين، في موضوع معين، أخذاً ورداً، وتعقيباً على كل ملاحظة. أو مقولة بالتي هي أحسن.
ومهما تكن أطراف الحوار أو الجهات المعنية به، فالسؤال الذي ينبغي طرحه مع بعض من وجهاء الفكر والقلم هو: «كيف يكون الحوار؟». واختصاراً للإجابة نشير إلى الشروط الآتية:
أولاً: قبول الآخر كما هو، أي قبول الاختلاف معه والاعتراف به واحترامه، مما يستوجب عدم المس بمقدساته وثوابت كيانه، دون أي تنقيص منه أو هيمنة عليه.
ثانياً: معرفته على حقيقته. وهو ما يتطلب تصحيح المفاهيم، والاتفاق على المدلول الحقيقي للمصطلحات المتداولة في الحوار، مثل: المقاومة، الإرهاب، الجهاد، القتال، الأصولية، السلفية الإسلاموية. وشبيهة بها عبارات مستعملة في اللغات الأجنبية...
ولا غرو أنه مهما بلغت وسائل حفظ الأمن، والقضاء على خلايا الإرهاب، وتجفيف ينابيعه، فإنها لا تعد سوى «مواجهة ظرفية» محدودة الفعالية، ما دامت لم تعتمد «ثقافة الحوار» وتفعيل القيم الدينية في ضمائر المؤمنين ولم تنطلق من إشاعة الصورة الصحيحة عن الدين، ومن التعامل مع قيمه كمفاتيح لقلوب معتنقيه، إذ من الحقائق التاريخية أنه لا يمكن للعالم الإسلامي القيام بأي نهضة وتنمية وإصلاح من خارج الإسلام نفسه، الذي يظل المصدر الروحي الأساسي للجماهير الإسلامية، ولذلك اتجهت كل الحركات الإصلاحية فيه على مدى القرن الماضي إلى اعتماد الذاتية الإسلامية، لكنها واجهت واقعاً يهيمن عليه التخلف الاجتماعي والأمية الحائلة بين المسلمين وبين الوقوف على حقائق دينهم، في نصوصه المرجعية بدون وسيط متطرف أو جاهل أو جامد.
ذلكم أن آفات الفقر والأمية والظلم الاجتماعي التي تنخر كيانات المجتمعات الإسلامية هي مصادر التطرف و»الأصولية». يضاف إليها التهجم المستفز على الإسلام، في كل وسائل الإعلام الغربية. لذلك نعتقد أن الإسلام يواجه اليوم أخطر التحديات بالافتراء على تاريخه، واتهامه بأنه دين التطرف والإقصاء. كما يواجه نفس التحديات من داخل المجتمعات الإسلامية نفسها، بتشويه صورته، وتحريف قيمه من لدن الدعاة المتطرفين الذين جعلوا «العنف» والإرهاب الأعمى ضرباً من «الجهاد المشروع»، ولله الأمر من قبل ومن بعد.