ليست معرفتي بالدكتور سعد البازعي حديثة العهد، أو أنها تعود إلى تاريخ العمل المشترك في ترجمة كتاب «الأخلاق في عصر الحداثة السائلة» لزيجمونت باومان، بل سُبق ذلك بنوع آخر من الشراكة -إن صح التعبير- حين كنت أشارك «عبر الأثير»، ومن خلال الصديقة أ. سارة الرشيدان في الملتقى الأدبي الذي يشرف عليه د. البازعي، واعتبرت عضوًا فاعلاً فيه، رغم موقعي البعيد عنه جغرافيًا، إذ كنت حينئذٍ في مصر.
وإن اتفقنا على كون القارئ شريكًا في العمل الذي يقرأه، وفقًا لما تراه نظريات القراءة، فإن هذا يجعل الشراكة قد بدأت قبل ذلك بكثير. حيث كنت قارئة «لحوحة» للغاية لأعماله، وأناقش وأكثر من النقاش، فيرد على كل النقاط التي أثيرها بأناة وحلم وسعة صدر. وقد يكون هذا كله معروفًا لكل من قرأ للبازعي أو حضر له محاضرة أو ناقشه في قضية ثقافية، سواء أكان ذلك في العالم الافتراضي (وأعني به منصات التواصل الاجتماعي بأشكالها)، أم في العالم الحقيقي (في شكله الفيزيائي رغم أنه لا يكون حقيقيًا في أحيان كثيرة!).
ثم جاء كتاب باومان ليعزز ما سبق، إذ كان العمل عليه عتبة لمرحلة جديدة في سلم اهتماماتي الثقافية، فقد منحتني التجربة الفريدة حقًا الكثير مما يمكنني الاستناد عليه في عملي اللاحق في الترجمة على كل الأصعدة، بدءًا من تقنيات الترجمة على اختلافها، وانتهاءً بأمور التحرير والتنسيق، هذا علاوة على الزهو الذي امتلأت به نفسي لوجود اسمي على غلاف الكتاب، إلى جانب اسم ناقد حصيف له وزنه في المشهد الثقافي العربي مثله.
غير أن أكثر ما أثّر بي في وقت العمل على الكتاب هو مرض أمي، وقضائي الساعات الطويلة في المستشفى خارج غرفة العناية المركزة، على أمل أن تستعيد عافيتها وتتغلب على المرض، لتتمكن من رؤية الكتاب الذي فرحت به كثيرًا. غير أن إرادة الله شاءت أن ترحل أمي قبل أن يتحقق هذا. وأكثر ما أذكره لأستاذي البازعي، رغم أنني لست بحاجة لتذكّر صنيعه لأنني لا أنساه، مساندته لي في تلك اللحظات العصيبة، وسؤاله المستمر عن صحة أمي، ومواساته لي بعد رحيلها، ثم تفهّمه لما مررت به إثر ذلك، وتسامحه في اضطراب مواعيدي في تسليم جزئي من العمل، واضطلاعه بمعظم مهام التواصل مع الناشر، إن لم يكن كلها.
لقد أحسن د. سعد البازعي «استقبال الآخر» (أنا وسواي)، وكان في ذلك مثلما وصف مارتن بوبر من العلاقة بين الأنا والأنت، التي يراها مستقلة عن الزمان والمكان، فتتميز بالتبادلية الحوارية. ولم يكن ينظر حتى للمختلفين معه من خلال ثنائية الأنا- الهو (التي شرحها بوبر أيضًا)، التي لا تعدو كونها نوعا من الحوار الداخلي مع الذات «المونولوج»، بل آمن بوجود الآخر المختلف الذي يجعل العلاقة ندية، (دون خصومة بالضرورة)، ليكون الحوار مسعى للتداني بدلاً من التنائي.
لا أظن أن لديّ كلمات تفي د. البازعي حقه، لكنها محطات قليلة، ولحظات قصيرة مهما طال زمنها. كما أن هذه ليست شهادة، كما يُفترض بها، بل هي وقفة امتنان متواصلٍ وممتدّ.
** **
- بثينة الإبراهيم