أحدثت الطفرة التكنولوجية وما أفرزته من ثورة معلوماتية وانفتاح على الفضاءات الافتراضية هزة عميقة في بنى الوعي وقيم السلوك على المستوى الإنساني بوجه عام. وإذا كان ذلك عميقا في المجتمعات الغربية التي عرفت قيم التطور والحداثة والحرية باكرا فإن الأمر يصبح أكثر إلحاحا في المجتمعات العربية، وخصوصا الخليجية التي دخلت ركب التحديث متأخرة جدا بفعل اكتشاف النفط وما تلاه من تدفق الثروة في يد المجتمعات التي تحولت معيشيا واقتصاديا على نحو مفاجئ، في حين لم يكن استعدادها التعليمي والمعرفي موازيا بما يكفي لمواكبة هذه التحولات السريعة والمتلاحقة في آن واحد.
ومع دخول الانترنت وظهور منصات التواصل الاجتماعي (فيس بوك ـ تويتر ـ يوتيوب ... الخ) دخلت المجتمعات مرحلة جديدة كانت بمثابة انقلاب كاسح أسهم في محو المراحل التي سبقتها، إذ بات العالم غرفة واحدة مشرعة الأبواب والنوافذ على كل الجهات التي تفضي إلى كل الاحتمالات الكونية.
يقول الدكتور سعد البازعي في إحدى تغريداته عن هذا العصر التكنولولجي بامتياز: «عصر المعلومات الزائفة بدأ بشبكات التواصل وسيزداد كما يتوقع الخبراء نتيجة لتطور الذكاء الاصطناعي بالقدر الذي يصل الى درجة تزييف الأصوات والأشكال كما في تركيب صوت رئيس دولة او مصدر موثوق. عصر المعلومات ينقلب على نفسه فليخفف المبشرون به من حماستهم»!
وانطلاقا من هذا الوعي الواضح والحاسم إزاء العصر دخل الدكتور سعد البازعي مضمار الفضاء الافترضي متسلحا بوعي عميق لا يخلو من الريبة والشك والحذر من فخاخ هذا الواقع المندفع بشراسة متناهية.
ولعل أصدق تعبير نصف به الدكتور سعد البازعي وهو يسجل حضوره الدقيق إلكترونيا بأنه (حكيم على منصات التواصل). لقد أدرك البازعي مخاطر اللعبة ومتاهاتها مبكرا فرسم طريقه بعناية فائقة لا يتقنها إلا من كان في فهمه وقراءته للأشياء، خلافا للكثير من الكتاب والمثقفين والمفكرين الذين آثر بعضهم الانكفاء والنكوص ومفارقة القافلة، فيما خاض البعض دون حساب دقيق فوقعوا في المزالق التي كانت كارثية في كثير من الحالات.
لاحظ الكثير من المتابعين لبعض الأسماء الكبيرة في المشهد الثقافي وهي تنكشف ببلاهة أمام مرآة التكنولوجيا، وتنساق في سجالات غوغائية متخلفة لا تمت بصلة إلى تاريخها المعرفي الطويل.
في اللقاء الحواري مع الدكتور سعد البازعي الذي نظمه مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم، في معض مسقط الدولي للكتاب، الذي كان لي شرف إدارته، عمدت إلى أن أجعل هذه القضية إحدى محاور النقاش مع البازعي، وتفاجأنا كيف كانت ردود أفعال الحضور تجاهها. لقد سألت الدكتور سعد البازعي عن هذه الفئة من المثقفين ومراهاقاتها على منصات التواصل الاجتماعي. ما الذي يجعل المثقف الطليعي ينسلخ عن تاريخه ويتخلى عن مشروعه الثقافي الذي اشتغل عليه طيلة سنوات عديدة؟ ما الذي يدعو مثقفا كبيرا إلى أن يتنكر لأفكاره وقناعاته التي كرسها في كتاباته ومؤلفاته ومحاضراته ردحا من الزمن؟ ما الذي دفع بمثقف تنويري أو حداثي أو مفكر سياسي قومي يرفع شعار الثورية والتحرر إلى أن يتبنى خطابات سلطوية قمعية أو فئوية أو يردد مقولات طائفية ورجعية؟
الدكتور سعد البازعي وضع المشرط على موضع الألم حين أوضح أنه بمجيء شبكات التواصل الاجتماعي طرأ وضع جديد، بل بالغ الجدة، على مفاهيم وممارسات في الكتابة والنشر ظلت مستقرة لفترة طويلة نسبياً. فليس من مقارنة بين ما حدث بمجيء تلك الشبكات وأحداث تواصلية أخرى سوى مجيء الصحف السيارة التي أتاحت للكتّاب أن ينشروا أعمالاً تصل إلى العديد من الناس في وقت واحد بدلاً من الكتب التي تنتظر قارئاً قد يأتي ولا يأتي. مع شبكات التواصل اتسعت دائرة التواصل وصارت الكلمات تصل الآلاف أو الملايين في نفس اللحظة. لكن المختلف هنا لم يقتصر على سرعة أو انتشار الكتابة على مدى غير مسبوق بالنسبة لأغلبية الكتاب، وإنما تجاوزه إلى عنصر لم يخطر ببال أحد من قبل: ذلك هو التفاعل الآني أو المباشر».
وأضاف الدكتور سعد البازعي موضحا: «كان من الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى تغيير في طبيعة الكتابة زاد من حدته أن إحدى شبكات التواصل، وهي تويتر، حددت عدد الحروف التي يمكن استخدامها للتعبير، فمع التفاعل المباشر وجد الكاتب نفسه أمام ردود فعل سريعة تكون إما مشجعة وداعمة أو رافضة واستفزازية، فاضطر لأول مرة في تاريخ الكتابة للتفاعل مع ردود الفعل تلك، مما دفعه أحياناً للخروج على أسلوبه المعتاد من هدوء وتأنٍ في الكتابة أو عمق في التناول. فهو هنا مستفز للرد على منتقد، وهناك مدعو للمضي في رأي أو خاطرة».
واختتم الدكتور سعد البازعي حديثه في هذا الشأن قائلا: «وكانت من محصلات ذلك هيمنة نوع من الشعبوية على نمط التفاعل لدى بعض الكتاب على النحو الذي أدهش بعض متابعي هم ممن خبروهم أكثر اتزاناً أو أكثر عمقاً في كتبهم أو حتى مقالاتهم التي عهدوا. فحال أولئك قريب مما عرفته الثقافات في التفاعل الشفاهي في الخطب السياسية بشكل خاص حين تطغى الرغبات الجماهيرية على خطط المتحدث فيعدلها آنياً لتنسجم مع رغبات المتلقين من الحشود».
إن جولة واحدة على حساب الدكتور سعد البازعي على التويتر وتصفح منشوراته أو تغريداته، تعطيك انطباعا لا يسعك معه إلا أن ترفع القبعة احتراما لهذا الوعي الذي يتعامل به البازعي في سيره عبر حقول الفضاء الافتراضي. إنه يتفاعل ويناقش ويطرح رأيه بوضوح ودقة، ويقول كلمته في السجال الاجتماعي والثقافي والإعلامي والفني، وبمنتهى الصراحة والتفصيل أحيانا، حتى لو اضطر إلى طرحه مجزأ على أكثر من تغريدة، دون أن يسعى لإرضاء فئة أو مداهنة جهة أو الانحياز لطرف على حساب الآخر. إنه يمارس دور هو كمثقف مستنير صاحب رسالة يحملها في مختلف المنابر.
يقول البازعي في إحدى تغريداته: «في كل الثقافات تقريباً ينمو ما يعرف بالعصر الذهبي، وهو استعادة رومانسية حالمة للماضي بوصفه أجمل من الحاضر: الماضي فيه الجميل وفيه القبيح، تماماً كما هو الحاضر، فليحل التناول العقلاني النقدي محل الحلم إن كنا نريد الفهم، أما إن أردنا غير الفهم فلنا أن نواصل الحلم.»
ورأيناه مؤخرا يدخل في السجال الدائر حول مسلسل «العاصوف» الذي أثار منذ بداية عرضه تلفزيونا مطلع شهر مضان المبارك موجة عارمة من ردود الأفعال بين مؤيد ورافض، بلغت في بعضها حد التجريح لبعض المشاركين في العمل. وهنا نستمع إلى صوت الحكمة والنقد البناء لدى سعد البارزعي في سلسلة تغريدات نستشهد ببعضا حتى لا نطيل على القارئ، ويمكن الرجوع إليها على حساب البازعي. يقول في أحدها: «ما قدمه مسلسل «العاصوف» هو بعض ما تعج به الرواية والقصة القصيرة السعودية منذ عقود، ولكن لأن كثيراً من المشاهدين لا يقرأون الأدب السردي، فيما يبدو، فقد صدموا حين شاهدوا المسلسل. بل إن الأعمال السردية المميزة لم تكشف المستور فقط وإنما قدمته برؤى أعمق وشاعرية أعلى».
وقال في تغريدة أخرى: «مسلسل «العاصوف» ينطوي على ضعف ومبالغات لكنه استطاع أن يطرح أسئلة مهمة، مثلما حدث مع حلقات كثيرة من «طاش»، ومثلما حدث العام الماضي مع مسلسل «حارة الشيخ». هي أعمال فيها ما يسير البعض ولا يسر غيرهم لكن آن لنا أن نتقبلها بصدر رحب ونناقشها بهدوء لنتخذ مواقف إزاءها دون تشنج واتهامات».
ويستطرد متناولا القضية من زاوية أخرى: «لدى البعض نزعة طهرانية ترفض تصوير ما «يسيء» للمجتمع تلفزيونيا كما لو أن المجتمع ليس مجتمعا إنسانيا فيه الصلاح والسوء بينما تمتلئ الحياة اليومية بذلك الخليط. إن مهمة الفن ليس تهنئة المجتمع بإبراز الإيجابيات فقط وإنما تصوير السلبي أيضا بل وإبرازه لعل المجتمع يعالجه».
ويدخل أيضا سجالا آخر حول المستشرق الأمريكي بيرنارد لويس الذي توفي مؤخرا، نرى فيه دراية العارف وموضوعية الناقد الحيادي ومصداقية المثقف الجاد.
يقول البازعي: «استعر في الأيام القليلة الماضية دفاع عربي محموم عن بيرنارد لويس ونفي ما ينسب إليه من ارتباط بالسياسة الأمريكية مع التقليل من أهمية يهوديته. وصف تلك الدفاعات بالليبرالية غير دقيق فليس أي من أولئك أكثر ليبرالية أو فهما للويس من إدوارد سعيد الذي فند لويس وأي تفنيد!»
ويضيف في هذا الشأن: «التأكيد على ارتباطات لويس بالسياسة الأمريكية وغزو العراق تحديدا ودعمه اللامحدود لإسرائيل لا يعني أن لويس لم يقدم معرفة وعلما على قدر عال من الأهمية والتأثير. نحن دائما بحاجة لرؤية الجانبين معا».
لقد حافظ الدكتور سعد البازعي على تفرده ومكانته على منصات التواصل الاجتماعي، ولم ينجرف كغيره في قضايا وسجالات رجعية لا تليق بالمثقف الطليعي الذي يحمل هم الوعي ويتبنى خيار التغيير والإصلاح والتنوير دون شطط أو ادخول في مغامرات غير محسوبة العواقب والنهايات.
ولعل تغريدته التالية تكون خير ختام يلخص رؤيته في التعاطي مع هذه القضايا: «طوال التاريخ كانت التطورات العلمية والتقنية تشد الناس فرحاً وخوفاً، وكانت لها دائماً آثار إيجابية وسلبية ومبشرون ومنذرون. القلة كانت ترى الجانبين ولكنها في النهاية ترجح أحدهما أو تميل إليه. المشكلة الحقيقية كانت في أولئك المندفعين اندفاعاً أعمى إلى أي منهما وكأن الآخر غير موجود».
** **
حسن المطروشي - شاعر وكاتب عماني