المثقفون أمام الآخر قسمان: قسم وقف منه موقف العداء، وقسم ذاب فيه ذوبان الملح بالماء، وهما – في الحقيقة – موقفان مجافيان للصواب، وقليل ما نجد شخصية ثقافية واعية بهذه المبادئ المعرفية.
فقد اتسم الأستاذ الدكتور سعد البازعي بانفتاح عقليته، وهو الأمر الذي جعله يخرج عن حيز جاذبية سلطة الأنا أو سلطة الآخر، ولعل هذا هو ما جعله صادق التعبير ولو كان الأمر يتعلق به شخصيا.
فهو يرفض فكرة في النظرة إلى الغرب نظرة الإجلال المطلق، وهي نظرة تجري غالباً لدى المفكرين العرب، بحيث يحاكمون الشرق من خلال مجابهته ومقارنته بالغرب فتكون النتيجة هي تحقير الشرق وقبول الغرب بوصفه أنموذجا فريدا مثاليا.
وفي جانب آخر نجد فريقا يقوم بالإعلاء المبالغ فيه لتاريخ الشرق، وإسباغ صفات أخلاقية مبالغ بها على تاريخه، ونسبة كل جديد إليه.
وهو يرفض فكرة رفض الآخر، مشيرا إلى أن هناك نقادا كبارا للحضارة الغربية من داخلها، منهم المفكران الفرنسيان «ميشيل فوكو» و«إدغار موران» والكندي «تشارلز تيلور»، إلى جانب مدرسة فرانكفورت في النصف الأول من القرن الماضي، وقد اشتهرت بنقدها للتنوير. وهو بذلك يسعي نحو رؤية مركبة لحضارة تشمل العالم اليوم، تتضمنالإنجازات الهائلة والمشكلات الكبرى أيضاً.
وهذه الحضارة إعلان انتصار على الآخر، وعلى الذات معاً. الانتصار على الآخر، يعني الانتصار على ذاته المتعالية وطغيانه، والانتصار على الذات، يعني اكتشاف مواطن الضعف لدى الذات، وتقبّل الجوانب المضيئة لدى الآخر. وعلى هذا الأساس، يمكن القول بأن نقد ابن خلدون للحضارة العربية الإسلامية، شكل من أشكال الانتصار لها، مثلما أن نقد بعض مفكري الغرب لحضارتهم انتصار لتلك الحضارة، انتصار إنساني وحضاري في الوقت نفسه، لأنه يعلي من قيم تكاد الجوانب البربرية، كما سماها «موران» في «ثقافة أوروبا وبربريتها»
وبذلك نستطيع أن نراه متطلعا إلى ثقافة عالمية ، وهذه الحضارة العالمية ترفض هيمنة أنموذج حضاري واحد على حساب التعددية والاختلاف، وينطلق من ذلك إلى فكرة الأدب العالمي تلك الفكرة التي تلغي اختلاف اللغات. وهذه الرؤية توصلنا إلى تعميق الحوار والسلام العالميين، ومكافحة الهيمنة التي تسعى بعض الشعوب والثقافات لتحقيقها عبر ظواهر كالعولمة.
وقبول الآخر والتفاعل معه جعله يفكر في المنتج الأدبي أيضا، فلم يقف موقف الرفض لكل جديد، بل نره يقبل قصيدة النثر، ويراها دليلا على العبقرية والتفرد والنبوغ، فقصيدة النثر، لديه تمثل أهم التجارب الشعرية، وهي في تقديره لم تعبرعنهاجس الكتابة فقط، وإنما هي منبعثة من أتون الكتابة نفسها، مطاردة بإشكالية الكتابة، لسبب بسيط، وهو أنها نتاج مفارقة كتابية ما تفتأ تُذكَّر بها، فكيف تكون قصيدة ونثراً في الوقت نفسه؟!.هذه المفارقة الرائعة جعلت شعراء القصيدة المهمين يتحركون من الوعي بالتباسات الكتابة الشعرية، مثلما يسعون لإضاءة ملابسات العالم من حولهم أثناء تفاعلهم معه. فقصيدة النثرتذكرنا بأن الشعر لا يحصره شكل، وأن القصيدة شكل من أشكال تمثله، أي أنها ليست الوحيدة في ذلك. الشعر حاضر في السرد، وفي لغة المسرح، ومقابل النثر، ليس الشعر، وإنما النظم.
نقف على تلك الرؤية من خلال مؤلفاته وخاصة «استقبال الآخر»، وكذلك ما ورد في كتاب «دليل الناقد الأدبي» الذي اشترك معه فيه د. ميجان الرويلي. فقد رأى أن أكثر الدراسات الأدبية عالة على نظريات النقد الغربي، سواء كان ذلك بالشرح أو التبسيط أو التطبيق ، مشيرا إلى أن قليلين هم من اسقلوا عن عباءة التمثل الغربي، مثل شكري عياد، من خلال ما أسماه «التفسير الحضاري»، ولا يمكن إغفال تجربة عبد الفتاح كيليطو، بشكل خاص، لحفره العميق في الموروث العربي، وقراءاته المدققة في ما يقرأ من نصوص.
وفي سبيل ذلك بدأ البازعي مشروعه النقدي بتلمس التراث في العقل الأدبي السعودي، فأحد أهم أهداف مشروعه النقدي في الكتابة عن الشعر في المملكة، هو تلمّس تلك الخصائص. فأول كتبه «ثقافة الصحراء» طرح بعض تلك الخصائص في مرحلة السبعينيات والثمانينيات، وكذلك في كتابه «إحالات القصيدة»، حيث تلمس أثر الموروث الشعبي في القصيدة السعودية، أو استعادة التراث بشكل عام. لكنه عاد في مرحلة تالية، في ورقة بحثية بعنوان: «حداثة الصحراء» نشرت في مجلة «ألف»، التي تصدرها الجامعة الأميركية في القاهرة ، ليوسع من رؤيته لتلك الخصائص، باستدعاء سمات قصيدة النثر. وقد وجد استمراراً لثقافة الصحراء، لغة وأخيلة وموضوعات، إلى جانب انغماس أعمق في مشكلات الحياة المدنية، بوصفها المستقبل الوحيد الممكن، وضرب على ذلك مثلا بقصيدة النثر بشكل خاص.
وفي جانب آخر من جوانب ذوبان الفكر البازعي مع الأفكار والفكر والاتجاهات الأخرى التي توسعت حتى شملت قضايا تاريخية ودينية نرى كتابه «المكون اليهودي في الحضارة الغربية» حيث اهتم خلاله بالدور الحضاري لليهود بوصفه مكوناً أساسياً للحضارة الغربية التي نبعت من مصدرين رئيسين: اليوناني/ الروماني واليهودي/ المسيحي.
وبرغم أن الكتاب صدم بعض قليلي النظر، فإنه يطرح واقعا، ولا يفعل فعل النعامة تخفي رأسها في الرمال، فالقارئ العربي غير معتاد للحديث عن الآخر بشكل إيجابي.
هذه إطلالة سريعة في فكر الدكتور سعد البازعي وهي حقيقة غير كافية لإشباع نهم القارئ العطش، ولكنها تفتح الأبواب أمام العقول المتفتحة المتطلعة إلى إدراك الجمال في الكون.
** **
- د.أيمن أبومصطفى