مفاهيم مختلفة ورؤى متعدّدة هي تلك التي تجدها وأنت تدخل عالم من التنوع والتعدد والاشتغال الثقافي الرصين الذي تمثله تجربة المفكر السعودي د. سعد البازعي، مع فهم مميز لعميق فلسفة المصطلحات وحدود توظيفها كذلك وعيا بالسياقات الفكرية المختلفة التي ظهرت فيها تلك المصطلحات، كما تجد قدرته المميزة على التأصيل لمصطلحات تبدو جديدة في مجالها كذلك القدرة على دمج مفردات بعض النظريات النقدية والفكرية المختلفة بأخرى للوصول إلى مفاهيم أو طرق اشتغال جديدة.
الاختلاف الثقافي كان ولا زال هاجس د. البازعي من زمن البدايات وهو يحاول أن يلحظ اثر ذلك الاختلاف الثقافي في أعمال المستشرقين.
تعامله مع موضوع الاختلاف كان علميا مقنعا ولم يكن (في غالب الأوقات) أحادياً اختزالياً، ولا مرتهنا للمركزية الثقافية الغربية كما نجد لدى غالب من تعاملوا مع هذا الموضوع. كما نجد التحول في النظرة للثقافة من الثنائية المعتادة (نحن / الآخر) إلى التعاطي مع الثقافات الأخرى غير المركزية مثل الثقافة الهندية والصينية وغيرها، بل نجد رصداً مميزاً لرؤى مجموعة من الكتّاب اليابانيين والصينيين للاختلاف بين الثقافات والهيمنة الثقافية الغربية تحديداً.
مكون الاختلاف الثقافي نجده في كتابه المشترك دليل الناقد الأدبي هو ورفيقه (د.ميجان الرويلي)، حيث يقدم تصوراً مختلفاً عُبِّر عنه بالترجمة المختلفة لعديد المصطلحات عن ترجماتها السابقة المعتادة.
لنتابع هنا رؤيته في مفهوم ترجمة المصطلح ومفهوم الشحن الدلالي ودوره الأساسي في تحقيق ترجمة ممكنة للمصطلح وهي رؤية ترشح من فهم حقيقي للواقع ولرحلة المصطلحات بين الثقافات وذلك في دراسته التي تناولت بشكل من الأشكال تجربة كتابه دليل الناقد الأدبي:
«إن تقديم المصطلحات أو التعريف بها، لاسيما في لغة غير اللغة التي وضعت بها، ليست عملية «نقل دلالي»، عملية تنقل بها الدلالات الجاهزة، لأن ذلك يفترض شفافية اللغة وهو ما تأبى اللغة أن تكونه. (...) ولذا فإن عملية الترجمة سواء كانت لمصطلح أو لغيره إنما تخدع نفسها حين تحسب المسألة مسألة نقل دلالي وتغفل العملية الأساسية التي تفرض نفها، عملية الشحن الدلالي التي لا بد منها والتي سعى دليل الناقد الأدبي لتحقيقها أو الدلالة عليها على أقل تقدير.»
كما يعرف النظرية تمهيدا لوضع تصور لها عبر تباين النظريات بين الثقافات المختلفة وفي أصل كلمة النظرية أيضاً.
كما نجد فهمه لمصطلح الآخر وتعقيد هذا المصطلح الذي حُمِّل بعديد المعاني غير الدقيقة التي وقّعت بين فخين شرحهما الباحث بدقة وبأسلوب مقنع وهما الاختزال والإسقاط.»
أيضاً كان لاشتغاله بذات الوعي المركزي (المنطلق من الاختلاف) دور كبير في اشتغالاته التالية، فهو يرصد في احد كتبه المهمة مفهوم المكون اليهودي وبعده التأسيسي ضمن الثقافة الغربية الحديثة، وكما هي عادته، فإنه يحسن التعريف بالمصطلحات اللازمة للموضوع؛ سواء على المستوى الإثني أو مستوى المكون اليهودي والعلامات التي تمكنه أن يستنتج مدى حضور ذلك المكون في تجربة مفكر أو فيسلوف أو فنان. كتاب المكون اليهودي في الحضارة الغربية هو عمل علمي جاد تم فيه الانطلاق من لحظات هامة في تاريخ الفعل اليهودي، بداية من البعد اللاهوتي النصراني المرتبط من خلال العهد القديم باليهودية، ثم من خلال الأفكار أو الشخصيات (وما أكثرهم) مستنطقا نصوصهم ونصوصا كتبت حولهم باحثا عن حضور ذلك المكون في كثير من الكتاب والمفكرين والفنانين اليهود، غاضا البصر أحيانا بقصد عن بعض تلك الشخصيات التي لم تحضر فيها علامات ذلك المكون.
الكتاب يعد في نظري رحلة ثقافية مميزة ومن وعي جديد في لحظات التكوين عند الأخر المهيمن علينا سواء من خلال حضور المكون اليهودي تنظيراً وتوجيهاً أيضاً من خلال تلك المقولات التأسيسية التي ما زالت فاعلة ضمن وعينا مثل التنوير والحداثة وغيرها.
يطرح دكتور البازعي من نفس الهواجس ما يسميه سياسيات النقد وهو هنا يدعو للتعامل بوعي مع المكونات السياسية في النص الأدبي كما نجده يحرض على تأسيس فكرة القارئ الضمني ضمن نفس جدلية التلقي. الطريف في عمل د. البازعي محاولته الدائمة للتأسيس لمصطلحاته من خلال اشتغال يدمج بين نظريات نقدية مختلفة، مثل رؤيته للقارئ الضمني التي شكلها من خلال تظافر اشتغال الهرمونطيقا وكذلك نظريات التلقي مع استجابة القارئ، تميزت تجربة شتراوس الظاهراتية بذلك الحضور لسلطة الرقابة زمن الشيوعية، وهي تجربة تقترب لطبيعة السلط في بلداننا وهو ما تعامل معه بواقعية وهو يستبدل فكرة القارئ الضمني بالرقيب الضمني، وهو موضوع أنتج في ثقافة مختلفة لغرض استخدامه بالتزام ضمن التجربة الممكنة في العالم العربي.
نجده أيضاً يتتبع تلك التصورات التي أفترضها رواد التنوير الأوائل وما زالت محل جدل، حيث تكمن زاوية نظره المميزة في نفس منطلقاته السابقة التي يناقش بها كل هذا الزخم الفكري المصاحب للتنوير فهو يحلّل التنوير في لحظاته الأولى، وجدل علاقته بالثورة الفرنسية والتعييرات الفكرية المصاحبة، كما يتابع رموزه من العرب الأوائل ويحلل المواقف المختلفة لمفكرين عرب منه، ثم يضع رؤيته المميزة المنطلقة من الوعي بالاختلاف، وكذلك من الوعي بالآخر وهي رؤى تحتاجها مجتمعاتنا في زمن صارت الكلمة محملة بكم من الأبعاد الإيديولوجية وعناصر القوة التي يمتلكها الآخر الغالب.
تتبع البازعي أيضاً خطاب الاستشراق وطبيعته منذ بدايات دراسته في الدكتوراه كما تتبع مفاهيم عديدة منها: الآخر، والانتماء، الهوية، وكتب عديد الكتب المتضمنة لدراسات متعددة حول الأدب العربي نقدا وتحليلا لم أحظى حقيقة إلا بالاطلاع على جزء محدود منها.
في كتابه: الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف يطرح البازعي فكرة تبيئة المناهج الغربية لما يناسب البيئة المحلية، وهي فكرة ينطلق فيها من ضرورة دراسة الخلفيات التأسيسية للنظريات النقدية الأدبية الحديثة، مستشهدا بآراء مجموعة مهمة من النقاد الغربيين الذين يرصدون الجذور المختلفة لنظريات النقد الأدبي الحديثة سواء اليهودية أو النصرانية. وهو هنا وبدون أن يصرح، يطرح التناقض بين الفكرة العلمانية الحديثة الزاهية وبين الحقيقية الخفية لتلك الجذور، كما نجده في الفصل التالي المعنون بسؤال النظرية وأفق الاختلاف، يتحدث عن تجربة التعاطي مع النظرية الغربية في النقد الأدبي العربي ويرصد تباين المواقف منها ونجده يقترح مع رؤية آخرين نظرية نقدية عربية تتناسب مع ثقافتنا. أيضا يرصد في ذات الكتاب مفهوم التنوير ويرصد الملابسات الفكرية والثقافية لما يعرف بعصر الأنوار في أوربا وكيفية تلقيه من مختلف التوجهات العربية.
ولعه من المهم الإشارة هنا إلى عديد الأسئلة التي نجدها مطروحة أو متوارية في كتابات د. البازعي ومنها تلك الأسئلة التي تدور حول محاور كما يلي: حول طبيعة العلاقة بين البعد الإثني والفكر، وعلاقة الفن بالحرية، وعلاقة الدين بالأدب، وعلاقة الغالب بالمفردة والكلمة والنظرية التي ينتجها، كما نجد أسئلته التي شكلت كتابات كبير له عن علاقة الجذور والخلفيات بالكتابة، وعن علاقة الشعارات الرنانة بالحقيقة المتوارية، وعن تلك الأطر التي حكمت وتحكم تفكيرنا وعن ذلك المتواري والخفي في الأدب.
ولعله من المهم هنا الإشارة إلى أنه بعض الأفكار التي يناقشها د. البازعي لا زالت لدينا نحن العرب في طور الاختمار ولم تكتمل فكرة كاملة وجيهة ومنها موضوع النظرية النقدية العربية، وموضوع الحمولات الثقافية المتنوعة داخل النظريات الغربية وهو موضوع يحتاج إلى مزيد البحث والتدقيق في كل نظرية على حِدة وفي أبعادها الثقافية والخلفيات التي ساهمت في تأسيسها، إلا أنني اُكْبر فيه هذه الصراحة والوضوح في الفكرة التي طالما داهن كثيرون ولفوا حولها دون أن يمتلكوا القدرة أو الجرأة على خوضها بشكل مباشر غالباً، ربما بسبب ذلك التكوين الفكري والرؤية الإيديولوجية التي ينطلقون منها، أو بسبب حجم سطوة حضور الآخر الغالب في كافة مناحي حياتنا، كذلك حجم حضور تلاميذ تلك المدارس الغربية منذ عصر التنوير وحتى الآن، كما أنه من المهم الإشارة قد يكون من تلك الأسباب تلك الطبيعة العلمية لتلك النظريات والتأسيس الفلسفي المسبوك جيدا ضمنها.
أخيراً يبدو البازعي الإنسان وفياً لرفاق العمل العلمي خاصة مع شخصية مثل (د. عبدالوهاب المسيري) وذلك لا يعني أنه لا يعي أو لم يوضح الفارق المنهجي بين المشروع للعلمي لعبدالوهاب المسيري ومشروعه البحثي المهم، ولكن أعجبتني في عديد المواضع من كتابته تلك الإشارات إليه وإلي غيره مما كان لهم دور في تشكيل أو تطوير مشروعه الفكري.
** **
- د . عبدالحكيم المالكي