في كتابه «دليل الناقد الأدبي» عرفت الدكتور سعد البازعي كالكثير من الطلاب في مجال الدراسات الإنسانية . وقد كان الدليل اسما على مسمى للقارئ المتخصص وغير المتخصص ، وللقارئ العادي والمثقف، يسد الحاجة المصطلحية التي هي جزء لا يتجزأ من المعرفة العلمية. الكتاب الموسوعي الذي يعرّف بمئات المصطلحات يدين به المتعلمون لمؤلفيه: البازعي والرويلي. وهو كتاب يندر مثيله عربيا على الأقل لأن المشكلة المصطلحية تطرح من تلقاء نفسها مفاهيم وإجراءات ومناهج وزوايا نظر يعيها كل قارئ وباحث. ثم إن تبسيط التعقيدات وإذابة السياج الفاصلة بين الحدود المعرفية ، يشكل نوعا مركّبا من التحديات . وقد قادني الدليل إلى سلسلة مؤلفات البازعي الأخرى في مجال الأدب والثقافة وارتحال النظرية تأليفا وترجمة . و لا تهدف هذه المقالة – بل يتعذر عليها – الإلمام بمشروع البازعي الضخم والكثيف والمتعدد ، لكنها تكتفي بتسليط الضوء على جوانب من مشروعه تشكل في تقديري ملامح أساسية:
- المنهج المقارن : للمقارنات في مشروع البازعي دور يختلف تماما عما هو سائد عادة والذي يراد منه إثراء الأدب العربي بروافد الأدب الأجنبي المقارَن به. غير أن البازعي يصب اهتمامه الرئيس في إماطة اللثام عن جوانب قصور ذلك الأدب في تناول الثقافات الأخرى ، والبحث عن صورة العربي هناك ممارسا بهذا نقد المركزية وكاشفا عن الخلل الثقافي الكائن فيها ، ومواصلاً هاجس «إدوارد سعيد» البحثي بشغف.
- قوة القلق: مدفوعا بقوة القلق المعرفي وهموم العقل ، يفكر البازعي ويكتب ويؤدي أدواره المتعددة، وهو إذ يملك رؤية بانورامية للعالم ، يختصر العوالم في قلق واحد هو الخوف على حياتنا الثقافية والفكرية ، مثلما يقوم بتوزيع العالم الواحد في همومها جميعا. وإذا ما أفصحت عنواين بعض الكتب عن هذا القلق الممض ، يتجذر في الأخرى قلق عميق لا يتوقف أو يهدأ.
- مفهوم الهامشية والمهمَّشين: يكثر حضور الأقليات في مشروع البازعي النقدي والثقافي ، والذي يتبنى تفكيك آليات الهيمنة الاستعلائية ضد المقصَين أو غير المعترف بهم من قبل الذات المركزية . من هنا نلاحظ حضور (اليهود في الحضارة الغربية ، العرب في الثقافة الأمريكية ، النساء: شاعرات وباحثات ومستشرقات ، الأدب والفكر الأفريقي ، والآسيوي ، والألوان الأخرى مقابل النموذج الأبيض ، كما يقدم مراجعة لمفهوم عالمية الأدب).
- التاريخانية : في متاخمة لحدود «فوكو» حيث للبعد التاريخي ولمفهوم السلطة الأثر البالغ في تحليل الخطاب ، ينتج البازعي رؤيته التاريخانية الجديدة في كتابه الأخير (مواجهات السلطة). بهذا المعنى تحمل النصوص خطابات أخرى مهمَّشة ومسكوتا عنها هي نتاج جانبين: علاقتها بمختلف أشكال السلطة من جهة ، وتأثير كل مقومات المعرفة الذاتية من جهة أخرى . في ضوء هذا المنهج يحلل الكتاب نصوصا كثيرة: أدبية ونقدية وفلسفية ، حديثة وقديمة ، عربية وغربية، من أجل الخلوص إلى تعدد مضامين الحرية ودرجاتها وممارساتها بحسب علاقتها ببنيات السلطة وآليات القمع. إن استلهام هذا المنهج وتطويعه بهذا العمق والشمول إضافة لشساعة التنوع هو ما يكسب الكتاب رياديته وجدته وعالميته.
هذه جوانب يعرفها قراء سعد البازعي وقد يضيفون لها الكثير . أما الجانب الشخصي فلا يتاح إلا للقليل ممن تربطهم علاقة شخصية أو صلات عمل . وقد عرفت البازعي إنسانا من خلال مراجعتي لكتاب (مواجهات السلطة) فكان العمل معه يوازي امتاع المعرفة بل يزيد . عرفت إنسانا نادر السجايا ، يرفعه العلم ، ويزيده التواضع رفعة ومكانة . ثم إن لطفا يكسوه يكسر هيبة المعرفة وقوة الكلمات. كان يستقبل أي مقترح مهما بدا بسيطا بدهشة. ويكرر دائما أنه يفيد من مراجعتي أنا الفقيرة معرفيا إليه. شغوف بالعمل والإنجاز الدؤوب ومشجعا بكل سبيل إليه. وإني لأرجو أن يتيح لجمهوره ومحبيه فرصة أرحب وأغنى حين يكتب لنا سيرته الذاتية شأن كل حضور استثنائي فيرد القلق المعرفي بقلق أحسن منه.
** **
نورة الخالدي - محاضرة اللغة العربية / الدمام