الدكتور سعد البازعي واحد من الأصوات الفكرية والنّقدية العربية، التي استطاعت أن تجد طريقها إلى عقول القرّاء العرب في كل الأقطار العربية، عبر مؤلّفات كان لها صداها على المستوى النظري والتطبيقي على حدّ سواء، لاسيّما فيما يتعلق بطرح بعض القضايا التي جاءت لتجيب عن أسئلة جذرية في سياق البحث عن طبيعة علاقة الفكر العربي بالفكر الغربي، وشروط الاستفادة منه واستنباته في فضاء الثقافة العربية، ومظاهرتأثّر كلّ منهما بالآخر، ولعلّ «استقبال الآخر، الغرب في النقد العربي الحديث» يعدّ من أهمّ هذه الكتب التي بحثت في مسألة استعارة المنجز الغربي الفكري والثقافي، و بصفة خاصة في مجال النقد، إذ ظلّ موقف البازعي في هذه الناحية على درجة من الموضوعية، ودقّة التحليل ، حيث انفرد في تحديد شروط الاستعارة من الآخر، من خلال عقلنته لطبيعة العلاقة بين العربي والغربي، وضبطه لشروط المثاقفة الإيجابية، التي تقوم أساسا على التبادل واحترام الرصيد الحضاري لكل طرف، والأخذ من ثقافة الآخر ، إنّما يجب أن يتحدّد سلفا، بما يتلاءم وحاجة العقل العربي من مفاهيم وطروحات، بل موقفه في هذا المجال ظلّ قائما على ضرورة فهم المنجز الغربي قبل نقله وتوظيفه في سياق الفعل الثقافي والنقدي العربي، باعتبار أنّ التعامل مع الوافد الغربي بحمولاته الثقافية والتاريخية الغربية، قد لا يسعف إرادة المثقف العربي في تجاوز الوضعيات الإشكالية، و إيجاد أجوبة للأسئلة التي يطرحها الواقع «السوسيوثقافي» العربي ورهاناته على التجديد، وسعيه في بناء رؤية متكاملة عن المستقبل.
استطاع الدكتور سعد البازعي عبر هذا المؤلّف، أن يرسم معالم العلاقة المفترض وجودها بين الفكر العربي والفكر الغربي ، كلّ ذلك في سياق الاعتزاز بالموروث العربي، ومراعاة الخصوصية الثقافية للمجتمعات العربية ، دون غضّ الطرف عمّا ينتج في معامل الفكر الغربي من فكر تحرّري، محلّل، يستثمر الخطاب اللغوي، ويكرّس منظومة قيمية تحترم الإنسان في وجوده ، وفي طموحه إلى ارتياد آفاق الجديد ، وفي أسئلته عن المستقبل.
أمّا على صعيد النقد الأدبي، أيضا، فإنّ الكتاب المشترك الذي ألفّه الدكتور سعد البازعي مع الدكتور ميجان الرويلي، الموسوم ب: دليل الناقد الأدبي، يعد من أبرز المؤلفات التي أسّست لحضور البازعي في الجامعات العربية، وعززت مكانته لدى القراء العرب المعنيين بالشأن البحث الأكاديمي، ولعلّ صدور هذا المؤلف في ثلاث طبعات متتابعة، يعدّ شاهدا على مدى احتفال القارئ العربي بمحتواه، وعن حسن تلقيه للبازعي على صعيد الدرس النقدي.
لم ينحصر اهتمام الدكتور سعد البازعي بالأدب المكتوب بالفصيح ، و إنما كان له إسهامه في الأدب الشعبي (العامي) لاسيّما في تسعينيات القرن الماضي، وعلى الرّغم من كون التجربة لم تدم طويلا، ولم ترق إلى مستوى الاهتمام المتخصص في هذا الشأن؛ الذي يسخر الجهد كلّه لتتبع هذه الظاهرة، إلا أنّ قراءته لوجوه التجديد في الشّعرالشّعبي السعودي، ومساهمته القرائية لبعض الأصوات الشعرية الشعبية في سياق أنشطة «الجنادرية» يعدّ من اللّمسات الفنية الواعية بواقع الحال الشعري في المملكة العربية السعودية، في شقه العامي، ما يعزّز من حضور شخصية سعد البازعي في الساحة الثقافية في المملكة، ويكشف عن آلة البحث والمطالعة النقدية لديها.
على صعيد الثقافة العامة، يأخذ كتاب المكوّن اليهودي في الثقافة الغربية موقعه المتميّز في طرح أوجه التداخل بين الثقافة اليهودية والثقافة الغربية، وبأسلوب تأصيلي أستطاع الدكتورسعد البازعي أن يربط كثيرا من المفاهيم الفكرية والثقافية الغربية بأصلها اليهودي ، وذلك رسما و تأصيلا لمعالم الصورة الحقيقية لقضايا الفكر الغربي المحورية.
تحدث في هذا الكتاب القيّم، الذي أخذ منه جهد خمس سنين عن مجموعة من أعلام القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، منهم» فرويد»، «ماركس»، «سبينوزا»، بوصفهم أعلاما شكّلوا محطّات مشرقة في تاريخ الفلسفة، والفكر الغربي الحديث ، إذ يصعب على قارئ موضوعي استبعادهم عن أي سياق يعنى بالحديث عن مسيرة الفكر الغربي وتطوّره، لما عكسه انتماؤهم اليهودي على محتوى مقولات الفكر الغربي الأساسية ومسارتشكّل الثقافة الغربية بشكل عام، والمؤلف يهدف إلى تمرير رسالة مهمّة، تتجلّى، أساسا، في ضرورة فهم المنجز في الثقافة الإنسانية، بعيدا عن تأثيرات «الأدلجة» الجانبية، التي عادة ما تخفي حقيقة الفكر الناضج السؤول، الذي يسعى إلى تطوير وبناء الفكر الإنساني، وتبرز في الساحة الأفكار التي تتعاطف مع مبادئ إديولوجية ترتبط بأحداث محددة في المكان والزمان.
حضور اليهود في الثقافة الغربية، والاعتراف بمساهمتهم في بناء الحضارة الإنسانية، كان من أهم الأهداف التي سعى هذا المؤلف إلى تأكيدها، بأسلوب علمي تاريخي دقيق، جعل من هذا الكتاب قبلة لكل باحث يروم الموضوعية، وتقصّي الحقيقة التاريخية في مسلك معاينة حضارات الشعوب، وتفاعل العناصر فيها، حسب المبادئ والشروط التي يستوجبها التراكم المعرفي والحضاري للإنسانية.
على صعيد الآراء والمواقف من قضايا الساعة، والأسئلة المطروحة في راهن المجتمعات العربية، فإنّ الدكتور سعد البازغي قد أدلى بدلوه في كثير من هذه القضايا، ذات الصّلة بواقع الإنسان العربي في المملكة، وفي الوطن العربي بشكل أعمّ، لعلّ أهمّها:
موقفه من المؤسسات الثقافية، إذ يرى أنه يجب أن يكون لها مشروع محدّد المهام ،ومحدّد الهدف، ولعلّ أهم مايقوم عليه هذا الموقف هو دعوته في أكثر من منبر إلى ضرورة صناعة مشروع ثقافي قائم بأهدافه، يحقق نتائج طويلة المدى، والشاهد في هذه المسألة أن نجاح المؤسسات الثقافية وتطورها رهين بصناعة المشروع الثقافي الجاد، الذي يراهن على العمق، وعلى مستقبل الأجيال القادمة، بمعنى من المعاني أن ّ المثقف العربي اليوم يفتقد إلى الجو المناسب ، والفضاء الملائم للإبداع، وصناعة الفعل الثقافي ذي الأبعاد الإنسانية الحقّة، ما يجعل من هذا الواقع محفزا أساسيا للتعجيل بفلسفة ثقافية في الأوطان العربية ، تؤطّر الوعي ضمن مقولات الموروث الإيجابية، وتفتح أمام الناشئة نافذة الفكر الحر والتقدم والازدهار.
الرواية السعودية وواقع الدراما، موضوع من الموضوعات الثقافية التي أبدى فيها الدكتور سعد البازعي برأيه، وفي هذا المسلك يرى أن الرواية الجادة تعاني نوعا من العزلة، وعلى صعيد الدراما فإن المنتجين مولعون بالبحث عن المواضيع المثيرة، على حساب الرواية العميقة التي تطرح أسئلة عميقة عن الإنسان، وعن الأزمات الكبرى التي تحتاج من الوعي العربي أن يقدم لها الأجوبة والحلول قبل غيره، وذلك في مناح وقضايا كثيرة.
فالدراما السعودية منصرفة عن الإنتاج الجاد الذي يطرح أسئلة جادة، وجريئة عن الإنسان وعن المستقبل، كما يعتقد الدكتور سعد البازعي.
المرأة، أيضا، موضوع من الموضوعات التي أدلى فيها الدكتور سعد البازغي بآرائه، وهو يشخص وضعيتها، كونها ظلّت ضحيّة لخطاب إيديولوجي لدى الجانبين : المحافظ الذي يريد تسويق صورة عنها، بحسب منطلقاته المرجعية التي يصدر عنها ، ولدى الجانب الآخر المتحرر،( الليبرالي) ، الذي يراهن على نمط معين يسعى أن يلحق المرأة به ، تأثرا، كذلك، بالمرجعية الثقافية والحضارية التي يصدر عنها، وفي كلتا الحالتين تظل المرأة في كثير من المجتمعات العربية أسيرة هذين الموقفين الأديولوجيين، اللذين، فيما يبدو، أضاع عنها كثيرا من فرص الانطلاق والتميّز والإبداع على أكثر من صعيد.
إنّ الحديث عن شخصية سعد البازعي، ومدى إسهامها في المشهد النقدي والثقافي في المملكة العربية السعودية، والوطن العربي، لا يمكن أن يستوعبه متاح محدد بعدد من الأسطرفي جريدة ما، أو تفيه حقّه مناسبة من المناسبات التي تسخّر للحديث عن شخصية أكاديمية وثقافية معينة، و إنّما هو، في تقديرنا، شعلة نقدية وثقافية تستوجب الدرس والتحليل لأهمّ مقولاتها في النقد والثقافة، وهي مهمة هذا الجيل المتعلم، الذي هو مطالب، في الأساس، أن يستثمر رصيد أعلام مجتمعه الثقافي، والأدبي ، والنقدي، ولسنا نبالغ إذا قلنا أن الدكتور سعد البازغي واحد من أبرز هذه الأعلام في المشهد الثقافي والنقدي في المملكة العربية السعودية وفي الوطن العربي.
** **
د. حكيم دهيمي - الأستاذ المشارك في النقد الأدبي - قسم اللغة العربية - جامعة الجوف
hakim.dehimi@yahoo.fr