توفيق الحكيم يقول: إن الحياة تصنع المأساة، ولكن الفرح والابتسام هما الشيء الذي نخلقه نحن لنرش الماء على النار، ونبني أسواراً حول العاصفة التي في داخلنا حتى لا ندع لها أن تدمرنا وتقضي علينا، وهي قد تدمرنا حينما تدفعنا إلى الانحلال أو تدفعنا إلى الإحساس بأن مواقف الحياة متساوية وإن العمل والجهد لا قيمة لهما ما دامت النهاية واحدة ومعروفة.
فكيف لك أن تستوعب ما يحدث وأنت أمام كتاب مهيب عظيم بعنوان:
(قلق المعرفة)، فالمعرفة شقاء يا بازعي...
من يقلب ثنايا الكتاب يعرف حقيقة القلق المعرفي، ويكتشف أن الدكتور سعد البازعي عاش قلقًا في هذه الحياة إلى أن استقر هنا بين هذه الفصول المرتبة كالآتي: قلق الأطر، قلق المفكر (ثلاث مقالات حول عبدالوهاب المسيري)، قلق الغياب، الجابري (قلق الحوار.. قلق التفلسف)، إدوارد سعيد (قلق الانتماء)، قلق المعاصرة، قلق التنوير، تساؤلات غربية، القلق اليهودي، قلق التأليف والكتابة عن اليهود.
فكيف يستوي السؤال عن المعرفة مع السؤال فيها، وكيف لا ندرك الفرق بين قلق العارف وبين قلق الجاهل، ومتى ستنكشف الفروق بين المعارف، فالعارف الذي اشتغل في حقله وانشغل العمر به، يعرف أنه لا يعرف ويقلق لأنه لا يعرف رغم كل ما يعرف، ويسأل في عجزه عن بلوغ منتهى المعرفة التي يدرك أنه لن يبلغها، فيذوق وجد الحب عن تجربة، يتقلب من فرضية لأخرى ومن استفهام لآخر ومن رفض لقبول ومن قبول لرفض، يحتار مما يعرف ويعجز من أن يكف لأنه ابتدأ ولن ينتهي، يدرك عن معرفة أنها حياة المعرفة يولد فيها ويموت وتبقى فوقه متعالية مستعصية تغير من أحواله وأطواره ويظن في كل مرة أنها يفعل هو فيكتشف أنه ينفعل بأفعالها هي ليس إلا، ويحسب كل حين أنه اكتشف جديدًا ليدرك بحين بعده أنه انكشف هو، إنها حيرة اللا أدرية «في» المعرفة، قلق فيها وعليها..
وأنت تتوه في حلقات كتابه المعرفي القلقي التائه بين حروف متوترة تائهة تجد هذا التضاد قائم بين الذات العارفة والوعي المتعالي فيها، فهي تسعى إلى الخروج من تبخيس الذات، فالشخصية المحورية كتابه تعيش حالة صراعية بين الحرية المبتغاة والقوة الممكنة والإرداة المعطّلة، والمعرفة القلقة الحائرة الهائمة على غير هدى. ولعدم قدرة الذات على حسم الموقف فقد خسر الوعي الذاتي معركته في القدرة على التعايش مع الواقع الموضوعيّ المختلّ الذي يحول دون أن يكون على ما هو عليه في الواقع، فآثر العزلة التي كتبت عليه أخيراً التوحُّد مع ذاته متعالياً أكبريّاً على كل السرخسيات والهلاميات. فهذه العزلة الذاتية للمعرفة المتوترة المتوهجة هي وليدة ناشئة عن شروط خارجية تتميز بالقهر واستلاب الذات الواعية، فالجانب المهم من هذه المعرفة الواعية في كتاب البازعي هي المركّبة، وهي معرفة الذوات الأخرى التي تمارس على ذاتها أشكال القصور الذاتي الكلّي، فلا تكتفي فقط بالتلذُّذ باستعبادها واستدخال التصورات والمقولات التبريرية المألوفة، فيستحيل وجودها العيني إلى عدم. وهي إذ لا تكتفي بتلذُّذ مصادرة وعيها فإنما تتجاوز هذا المصادرة وعي الذات الأكبرية المتعالية بالوعي المُفارِق للسائد؛ الوعي الذي يمتلك عين زرقاء اليمامة، ويرى البشاعة متجسّدة في بؤس الواقع المظلم.
ومما يقع أيضاً في دائرة الرغبة المعرفية في تنمية الوعي، تحويل قيمة الحب إلى معادل موضوعي للحياة، فليس عسيراً على المتلقي التقاط طرافة المفارقة بين فصول كتابه حتى في اللحظة التي يستشعر فيه القارئ أن هذه العلاقة تعتمد على ما تفجره الحواس.
واللغة في كتابه تأخذ نصيباً موفوراً من الحدس الشعري، وقرائنه الاستدلالية في استقراء الدال والمدلول في أبعاده المتعددة (تهميش، إقصاء، استلاب، حنين، قلق، رفض...). وهذا الحدس يتطلب من القارئ أن يركز الانتباه على (تحوّلات الحدث) لا على لغة صياغته ككتاب معرفي فقط، فالذهاب مع فتنة اللغة الفاتنة، سيقود القارئ انفلات الخيط الرئيوي منه، ذلك الخيط الذي يقود إلى تبصُّر اليأس المفجع وتخاذلية المتن للهامش، كما يتبدّى في النصّ المكثّف، الذي يكشف عن انسحاقيَّة الذات أمام قواهرها المُعطّلة للإرادة.
أدهشني البازعي فوق ما ينبغي حين رأيته يكتب مرائيه ويرسم مراقيه بفذوذية تعبيرية قلّما وقفتُ على مثلها عند الكتاب المعاصرين. فهو طير موهوب لمنافي الكتابة النارية وانزياحاتها الخلّاقة التي تشوّش المدارك وتبعثر الحواس بلذاذة سامية واحتراف رحيب في إدارة سجايا اللغة وشمائل الدلالات، حتى ليبدو نصّه تطريزاً جنيّاً على قماش الدهشة أو خريطة ساحرة لآثار نمل يلتهم سحابة حُبلى.
** **
-د. هناء علي البواب