السلطة مفردة ذات ظل قاتم، وتشي بكثير من المعاني والمضامين غير الإيجابية على الأرجح في مخيلة ووعي السواد الأعظم من الناس، وهي ذات أبعاد وأطياف متعددة، غير أن الراجح والغالب منها هو البعد السياسي، خاصة إذا ما ذُكرت هملًا دون تخصيص واتباع بصفة تميزها وتحدد نوعها. صحيح أن هناك، إلى جانب السلطة السياسية، أنواعًا متعددة من السلطات مثل السلطة الثقافية والسلطة الاجتماعية والسلطة الاقتصادية، إلا أن الهيمنة والصوت الأعلى يبقى للسلطة السياسية في كل الأزمنة، وربما في معظم الثقافات.
في كتابه الجديد والضخم (أقل من 500 صفحة بقليل من القطع الكبير)، والذي حمل عنوانًا لافتًا هو (مواجهات السلطة: قلق الهيمنة عبر الثقافات)، يقدم لنا الناقد والمفكر المعروف سعد البازعي دراسة معمقة ومتوسعة يخوض فيها حقل ألغام هذه العلاقة الشائكة على أكثر من مستوى وفي أكثر من ثقافة وعلى امتداد أزمنة متباعدة.
ما الجديد؟
ندرك جميعًا، كما يدرك البازعي جيدًا بطبيعة الحال وحسب ما يشير إليه في كتابه، أن الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة ليس بالأمر الجديد، فهناك كتاب كثر تعرضوا لها وهناك كثير من الكتب والمقالات والدراسات التي دُبِّجت حولها، فما الجديد الذي يعدنا به هذا المؤلف الضخم؟ الجديد هو «اكتشاف تمظهرات لها لم تكن معروفة أو واضحة من قبل وكذلك في تحليل تلك التمظهرات وتقويم أثرها»، كما يقول البازعي الذي يسعى لتقديم رؤية مختلفة تستفيد من التراكم المعرفي الكبير الناتج عن تناول هذه العلاقة المتأزمة والإشكالية بالدراسة والتمحيص.
ولكن، وشأن كل دراسة موضوعية علمية لا بد من توضيح المفاهيم الأساسية وما تعنيه بالنسبة للباحث. يشير المؤلف إلى أن الثقافة هنا تشير إلى «المنتج الإبداعي والفكري العالِم، أو ما ينتجه الأفراد الذين يحملون ثقافة عالية أو مركبة في مقابل الثقافة الشعبية». هذه الثقافة العالمة معنية بإثارة التساؤلات دائمًا وربما التمرد على الأنماط القارة من التفكير، وهو ما أدى إلى أن تكون «على علاقة متوترة بثوابت المجتمعات والقوى المسيطرة، سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية عامة».
أما السلطة فتشير إلى «الهيمنة التي تصل إلى حد الاستبداد أحيانًا، ومصدرها في الغالب سياسي ولكنه يصير أحيانًا دينيًا واجتماعيًا واقتصاديًا». فالسلطة، إذن، متعددة الوجوه والمنابع، وكذلك هي الطرق التي تفرض بها والأشكال التي تتخذها وأنماط تأثيرها.
هناك أمران يجعلان هذه الدراسة التي بين أيدينا مختلفة عما سبقها من دراسات كما يشير المؤلف في المقدمة، الأول منهما هو أنها تخرج إلى حيز المقارنة أو التعددية في قراءة ظاهرة علاقة المثقف بالسلطة، حيث أنها بنيت انطلاقًا من أمثلة مستمدة من تجارب فكرية وإبداعية تنتمي إلى ثقافات ولغات متعددة. أما الآخر فهو أنها تنطلق من فرضية سعت إلى إثباتها، وهي أن ردود الفعل التي تستثيرها العلاقة بالسلطة تتضمن مواقف وإجراءات تتيح للمثقف مجابهة تلك السلطة ليس بالمعنى المباشر بل من خلال ما ينتج عن مخيلته من إبداع وما يتولد عن عقله من أفكار.
ولأن الدارس جزء من ثقافته التي ينتمي إليها، فهو أيضًا خاضع لذات السلطات التي يتناولها بالبحث والتحليل، ولا مناص له ولا مهرب من الرضوخ لإملاءاتها، ولذلك نجده، كما يصرح في مقدمته، يلجأ لتوظيف نفس الاستراتيجية التي يوظفها الكتّاب والمثقفون عمومًا لتفادي الصدام المباشر مع السلطة. يطلق الكاتب على هذه الاستراتيجية أو الأسلوب مسمى «القول من خلال الآخر»؛ فكما يستخدم الروائي على سبيل المثال شخصياته لتمرير رسائله، فإن الباحث يستخدم النص الروائي بالطريقة نفسها.
ولأن النصوص التي يدرسها والكتاب الذين يتناولهم الباحث ينتمون إلى ثقافات مختلفة، أو لبعدين ثقافيين رئيسين هما الثقافة العربية والثقافات الغربية، فلم يكن هناك بد من عقد المقارنة بين هاتين الثقافتين وإظهار أوجه التشابه والاختلاف بينهما. وفي حين يظن البعض أن المثقفين في الغرب لا يعانون من مواجهات جدية مع السلطة، فإن البازعي يؤكد، وهو الضليع في الثقافات الغربية، أن لتلك العلاقة المتأزمة بين المثقف والسلطة وجودها وتمظهراتها أيضًا لدى الغرب الذي ينفي وجود «حرية التعبير» بمعناها المطلق لديه، مستشهدًا بما يقوله الناقد الأمريكي ستانلي فش بهذا الشأن.
صحيح أن هامش الحرية الذي يتمتع به المثقف الغربي أكبر بما لا يقاس بالهامش الضئيل المتاح للمثقف العربي، إلا أن المثقف الغربي، ورغم تخلصه من هيمنة وسلطة الكنيسة والنظام السياسي إلى حد ما، إلا أنه ما يزال «يخشى ردود الفعل الشعبية أو المؤسساتية»، على حد تعبير البازعي.
مواجهات السلطة
في الشرق والغرب
يضم (مواجهات السلطة) قسمين كب يرين رئيسين هما «مواجهات السلطة في الثقافة العربية» و»مواجهات السلطة في الثقافات الغربية»، وتندرج تحت القسم الأول فصول ثلاثة هي «مواجهات السلطة في الموروث»، و«مواجهات السلطة في العصر الحديث»، و«المشهد العربي المعاصر».
في الفصل الأول الذي يتقسم بدوره على ثلاثة أقسام فرعية هي مواجهات الشعر ومواجهات الكتابة ومواجهات الفكر، يقدم لنا الكاتب ما يشبه التعريف لما يعنيه بالمواجهة، فهي «قد تعني التوتر الخفيف أو الخلاف العنيف أو العنف المنتهي بالبطش، مثلما تعني المطالب المتواصلة وصراع الطرفين على التأثير».
نقرأ في هذا الفصل كيف تعامل عدد من أبرز الأسماء الممثلة لتراثنا العريق مع السلطة في زمان كل واحد منهم، بدءًا من النابغة الذبياني، مما قبل الإسلام، وصولًا إلى ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي. ابن خلدون الذي كان يتملق الزعماء ويغير مواقفه تبعًا لمصالحه، حسب تحليل طه حسين لشخصيته. وبين هاتين الشخصيتين نقرأ عن كعب بن زهير وحسان بن ثابت والحطيئة، تحت عنوان «مواجهات الشعر»؛ ونقرأ عن ابن المقفع والجاحظ، الذي احتمى بالسلطة السياسية إزاء السلطة المجتمعية، والمتنبي (الذي يثار تساؤل هنا عن السر في عدم إدراج اسمه ضمن «مواجهات الشعر»)، وأبي حيان التوحيدي، الذي كان من أبرز الأمثلة لانتصار السلطة على المثقف. وتحت عنوان «مواجهات الفكر»، نقرأ عن الفارابي، الذي كان همه الرئيس هو «تبرير الفلسفة والدفاع عن شرعية وجودها» في بيئة إسلامية معادية أو مستريبة على أحسن تقدير تجاه الفلسفة، وابن رشد الذي «واجه السلطة بجميع مستوياتها المختلفة،الثقافية والاجتماعية والسياسية»، بالإضافة إلى ابن خلدون الذي سبقت الإشارة إليه أعلاه.
في الفصل الثاني من القسم الأول وتحت عنوان «مواجهات السلطة في العصر الحديث»، يتناول المؤلف أحد عشر نموذجًا/اسمًا هم كل من محمد بن عبدالوهاب ورفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وعبدالرحمن الكواكبي وفرح أنطون وأمين الريحاني ومي زيادة وخالد الفرج وطه حسين وتوفيق الحكيم ومالك بن نبي. وفي حين قد يبدو اختيار الشيخ محمد بن عبدالوهاب مستغربًا بوصفه نموذجًا لمواجهة السلطة باعتباره مثالاً بارزًا وقويًا للتحالف مع السلطة السياسية في عصره، إلا أن مواجهته كانت في الأغلب مع التوجهات الاجتماعية الثقافية التي عاصرها والتي كانت دعوته تشكل تهديدًا بل ونقضًا لها.
أما الطهطاوي صاحب الكتاب الشهير «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» فقد كان متحوطًا في نقده لثقافته وإطرائه على ثقافة الآخر المتقدمة، فكان يراوح بين إعلائه من شان ثقافته خاصة في بعدها التاريخي وبين تعبيره عن الإعجاب الجم بما توصلت إليه الحضارة الحديثة.من جانبه، فإن فرح أنطون في روايته «أورشليم الجديدة» يمرر من خلال إيراده لقصة زيارة عمر بن الخطاب إلى القدس وبعض تفاصيل ما جرى فيها رسائل مبطنة ظاهرها الإشادة بتسامح المسلمين وباطنها النقد لهيمنة توجه فكري وعقدي بعينه. أما الريحاني، صاحب «كتاب خالد»، فقد لجأ لحيلة سردية مألوفة، وهي نسبة السرد إلى شخصية مجهولة عثر على مخطوطة لها وقام بتحقيقها، واختار أن يكتبها باللغة الإنجليزية ابتداءً، وهو ما منحه مساحة أكبر من الحرية تتيح لها أن يشبّه خالد نفسه بالأنبياء والرسل، وهو أمر مستهجن في الثقافة الإسلامية.
الجزء الأكبر من هذا الفصل كان من نصيب طه حسين وكتابه الإشكالي «في الشعر الجاهلي» الصادر عام 1926م والذي أحدث ضجة كبيرة وأثار ردود أفعال صاخبة وساخطة، ليس لأن منهج الشك الذي تبناه في الكتاب قد تعرض لقضية انتحال الشعر العربي فحسب، بل لأنه تجاوز ذلك ليصل إلى بعض القصص القرآني المتعلق بالنبيين إبراهيم وإسماعيل وقصة بناء الكعبة. دخل طه حسين في مواجهة مع السلطة بأوجهها الثلاثة: السياسي والديني والاجتماعي، وإن كانت السلطتان السياسية والدينية أكثر تسامحًا معه من السلطة الاجتماعية، ولعل السبب في تغاضي السلطة السياسية عن أطروحته في كتابه، حسب ما يذهب إليه البازعي، هو أنها نظرت إلى ما أثاره كتاب طه حسين بوصفه سلاحًا سجاليًا يسهم في إشاعة روح ليبرالية تجاه الماضي. والأهم من ذلك هو أنها لم تنشغل بالسياسة أو الدعوة للديمقراطية الحقيقية واكتفت بالبعد الثقافي الذي لا يشكل تهديدًا للسلطة السياسية.
ويتطرق المؤلف لكتابين من كتب توفيق الحكيم هما «حماري قال لي» و«شجرة الحكم»، الكتاب «غريب التكوين»، كما يصفه، إذ يمزج ما بين المسرحية والقصة، ويشير إلى أنه يحتوي على هرطقات تمس الدين بشكل مباشر ولكنها مرت بسلام فيما يبدو لأن العمل قُدم بوصفه عملًا أدبيًا تخييليًا وليس بوصفه دراسة موضوعية كما حدث في حالة طه حسين.
في الفصل الثالث الذي يحمل عنوان «المشهد العربي المعاصر»، يسعى البازعي لتقديم «قراءة ترصد الكيفية التي واجه بها الكتاب العرب والنصوص العربية صرامة الرقيب»، مؤكدًا أن اله دف ليس التأريخ لحقبة زمنية محددة فيما يخص المواجهة بين الثقافة والسلطة، بقدر ما هو تقديم نماذج من «النصوص التي جرت على أرضيتها تلك المواجهة والتي تعد ممثلة لغيرها». وتحت عنوانين فرعيين هما «المواجهات الفكرية» و»المواجهات الأدبية»، يقدم المؤلف نماذج بارزة لأسماء ثقافية عربية من أمثال عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري، في الجانب الفكري؛ وأدونيس وعبدالعزيز المقالح وحنا مينه وجمال الغيطاني وعبدالرحمن منيف وسعدي يوسف ومحمد لطفي اليوسفي وأمينة غصن وشوقي ضيف وطراد الكبيسي، من بين أسماء أخرى كثيرة، في الجانب الأدبي. وقد رجحت كفة الأعمال والنماذج الأدبية في هذا الفصل كنتيجة طبيعية لما يشغله الأدب من موقع مركزي وحيوي في أغلب الثقافات «بوصفه الحاضن الأكبر للشحنات التعبيرية عن ذلك الخليط من المشاعر والمواقف والأفكار تجاه الحياة والمجتمع والقوى المؤثرة فيهما»، حسب تعبير المؤلف.
مواجهات السلطة في الثقافة الغربية
القسم الثاني من الكتاب كما سبقت الإشارة أعلاه مخصص لمواجهات السلطة في الثقافة الغربية، وفي الفصل الأول منه والمخصص عن مواجهات الموروث في العصور الوسطى وعصر النهضة، يشير البازعي إلى أن مرد كون المساحة المخصصة للنماذج المختارة من الثقافة الغربية عمومًا هو أن الكتاب معني بالثقافة العربية بالدرجة الأولى، ولا يستهدف إلى «رسم خارطة متوازنة لمواجهات السلطة في الثقافتين». ويؤكد كذلك على أن عرض نماذج من الثقافة الغربية جاء بهدف توسيع دائرة التأمل وإتاحة الفرصة للمقارنة بين النموذجين العربي والغربي في مواجهة السلطة. ويتطرق المؤلف في هذا الفصل القصير إلى مواجهات الكنيسة مع الرشدية (نسبة إلى ابن رشد) والرشديين في القرن الثالث عشر الذي شهد ترجمة أعمال ابن رشد إلى اللاتينية، حيث كانت الرشدية محاربة لدى شريحة واسعة من الأوربيين، وبخاصة لدى المؤسسات الدينية الرسمية، لدرجة محاكمة من ينتمون إليها ويدعون إليها بتهمة الهرطقة والخروج عن الدين.
أما الفصل الثاني المعني بمواجهات عصر النهضة فقد تطرق لثلاث شخصيات مهمة شكلت ثقافة ذلك العصر وهم القس والمصلح الهولندي إيراسموس (1466-1536)، الذي وظف السخرية لتوجيه النقد للكنيسة الكاثوليكية، وميغيل دي سرفانتس (1547-1616)، الذي راوغ السلطة عبر توظيف المؤلف المتخيل في روايته الشهيرة دون كيخوته، وكريستوفر مارلو (1564-1593)، الذي لجأ لتوظيف شخصية تيمورلنك في إحدى مسرحياته الشهيرة، والتي حملت الاسم ذاته مع تعديل طفيف (تامبورلين)، ليمرر من خلالها رسائل في نقد السلطة المطلقة، وما يرتبط بها من استبداد وعنف، وربما ليمرر أيضًا بعض الرسائل التي توسم عادة بالهرطقة والإلحاد الذي كان متهمًا به في حياته.
(مواجهات تنويرية ورومانسية) كان عنوان الفصل الثالث الذي قسمه المؤلف إلى ثلاثة أقسام فرعية هي المواجهات التنويرية، وتطرق فيه للحديث عن رينيه ديكارت ومونتسكيو، ومواجهات الأقليات اليهودية، مستعرضًا فيه باروخ دي إسبينوزا وموسى مندلزون؛ ومواجهات رومانسية، متطرقًا فيه للشاعرين وليم بليك وبيرسي شيلي، الذي عمد شأن مثقفين كثيرين غيره إلى مراوغة السلطات الرقابية من خلال توظيف ثقافات أخرى تظهر في الواجهة، أو أشخاص بعينهم ينتمون لتلك الثقافة يوجه النقد عبرهم لثقافته هو.
هذا التكنيك هو ما اتبعه ووظفه ثلاثة من كبار المثقفين والكتاب في القرن التاسع عشر، كما يشير إلى ذلك البازعي في الفصل الرابع الذي جاء تحت عنوان (القرن التاسع عشر ومواجهة الإسلام). أول هؤلاء المثقفين هو من توماس كارلايل، صاحب كتاب (الأبطال وعبادة البطولة والبطل في التاريخ)، الذي استعرض فيه سيرة عدد كبير من الشخصيات البطولية في التاريخ بما في ذلك شخصية النبي محمد، والذي بدا ضمه مستغربًا في ظل العلاقة المتوترة على أقل تقدير بين الإسلام والغرب. ولكن السبب الذي يفصح عنه كارلايل في اختيار شخصية نبي الإسلام هو أنه يجد «أكبر قدر من الحرية في الحديث عنه».
الاسمان الآخران هما الشاعر الألماني هاينرش هاينه اليهودي، الذي وظف الثقافة الأندلسية من خلال شخصية المنصور بن أبي عامر في نص مسرحي يحمل اسمه (المنصور) ليعبر عن معاناة اليهود واضطهادهم في المجتمعات الأوربية المسيحية، وإغناز غولدتسيهر، المستشرق وعالم الإسلاميات الهنغاري اليهودي، الذي لم يكن قادرًا على توجيه النقد للمسيحية إلا عبر توظيف الإسلام عبر الإعلاء من شأنه «بوصفه دينًا عقلانيًا وليس محكومًا بغيبيات أو دوغمائيات كما هي المسيحية».
جمرة الإبداع ورياح الخوف
نستنج من هذه الحالات وغيرها لدى كثير من الكتاب أنه رغم الوجه السلبي المألوف المترتب على والناتج عن قمع السلطة للمبدع وذوي الفكر إلا أن ما تمكن المبدعون من إنتاجه من إبداعات وكتابات يؤكد أن «للإبداع جمرة تتوهج برياح الخوف والقلق فتزداد حمرة واشتعالًا وحرارة»، حسب تعب ير البازعي في ختام هذا الفصل، الذي يشير فيه إلى ملاحظة مهمة سبق الإلماح إليها، وهي لجوء الكتاب إلى توظيف ثقافة الآخر في خضم صراعهم مع الأوجه المختلفة للسلطة. في الفصل الخامس الذي حمل عنوان (الفكر الغربي الحديث)، تحدث المؤلف عن تجارب كلٍّ من إدموند هوسرل (1859-1938)، الفيلسوف الألماني اليهودي الذي اضطر لمواجهة النازية في أوج صعودها، وهو ما نجم عنه إبعاده عن التدريس في الجامعة أولًا ثم مغادرته إلى براغ ثانيًا، وأنطونيو غرامشي، صاحب مفهوم المثقف العضوي، ومفهوم آخر أقل ارتباطًا باسمه هو مفهوم الهيمنة. كان غرامشي شيوعيًا حركيًا، وقد أدت مجابهته المباشرة للسلطة الفاشية في بلاده إلى سجنه بغرض إسكاته وإخماد جذوة عقله، لكن ذلك لم يتحقق، فقد كتب في السجن (دفاتر السجن) التي خلدت اسمه، وقاوم فيها السلطة بأسلوبين، كما يشير البازعي، يتمثل الأول فيما يسميه شتراوس «الكتابة بين السطر»، ويتجسد الثاني في صياغة «موقف فكري مؤسس على أطروحات نظرية جريئة ومؤثرة على المدى البعيد في مقاومة الحكم الشمولي الذي فرضه النظام الفاشي».
أما الشخصية الأخيرة في هذا الفصل فهي المفكرة الألمانية حنة آرنت، مؤلفة كتاب أسس التوتاليتارية الشهير والمفصلي في مجمل نتاجها الفكري. كانت آرنت، كما يشير البازعي، موزعة بين الضحية والجلاد؛ ففي الوقت الذي كانت فيه المسالة اليهودية ومناهضة النازية والتيارات الشمولية الاستبدادية تشكل بؤرة اهتمامها، والمحرك الأساس لنشاطها السياسي والفكري، إلا أن خطابها في جانب منه كان يفضح تحيزات عرقية ضد كل ما ليس غربيًا وأوربيًا على وجه التحديد.
في الفصل السادس وتحت عنوان (مواجهات معاصرة)، يتناول المؤلف عددًا من الأسماء البارزة التي استمرت في مواجهة أنماط من السلطة التي ظلت راسخة في الغرب رغم كل التطورات والتقدم الذي شهده على صعيد الديمقراطية والتخلص من الأنظمة الشمولية. وتحت عنوان فرعي هو (الفكر الفرنسي)، يخص المؤلف اثنين من ممثلي ذلك الفكر الذي تميز باهتمام خاص بتأثير الرقابة والسلطة على الفكر والثقافة. أول هذين الاسمين هو ميشيل فوكو صاحب عدد من المؤلفات المهمة في هذا الشأن، والذي عانى من سلطة الخطاب، كما أسماه، حين كتب بشكل سلبي عن ماركس، حيث أثار ذلك استياء مثقفي اليسار الفرنسي، فهاجموه وفرضوا عليه العزلة. الأمر البارز في تجربة فوكو في علاقته بالرقابة، كما يؤكد البازعي، هو أن الجهات التي تفرض الرقابة على المثقف لا تقتصر على السلطات السياسية والاجتماعية والثقافية، بل إنها تمتد لما يمارسه مثقفون تجاه أنماط من الخطاب الثقافي عبر تجاهله أو الصمت حياله بحيث يفقد صدقيته وأهميته، وهو ما يدخل في إطار سلطة المعرفة، التي ثبت أنها هي أيضًا من الممكن أن تكون قامعة ومستبدة.
أما الشخصية الثانية فهي آلان باديو، الذي يشترك مع نظيره فوكو في الاهتمام بعلاقة المعرفة بالسلطة، ولكن باشتغال أكثر وضوحًا وجلاء من الناحية الفلسفية مما لدى فوكو الذي توزع جهده بين حقول عدة لم تكن الفلسفة إلا مكونًا واحدًا منها. الأمر الأبرز الذي عرف به باديو هو نقده اللاذع والجاد لما يصفه بتقديس خطابات تخويفية واستغلالية مثل معاداة السامية وكراهية اليهود.
في هذا الفصل أيضًا، وتحت العنوان الفرعي (وجوه أخرى في الفكر الغربي المعاصر)، يتطرق البازعي للحديث عن ثلاثة أسماء بارزة هم كلٌّ من نعوم تشومسكي، والمؤرخ البريطاني توني جت، والفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك، ولكل منهم قصته مع الرقابة والسلطة، فتشومسكي على سبيل المثال ورغم أن «منجزه يأتي في طليعة ما يمكن وصفه بالنصوص المقاومة للهيمنة السلطوية»، إلا أنه يبقى مهمشًا من قبل الإعلام الأمريكي بقنواته الرئيسة وصحفه الكبرى، ويظل تأثيره محدودًا أو مقتصرًا على دائرة ضيقة نسبيًا من المثقفين، وأغلبهم من خارج الولايات المتحدة الأمريكية. أما توني جت فقد تعرض لهجوم لاذع في الولايات المتحدة لتعرضه بالنقد للوبي الإسرائيلي داخل أمريكا وتوجيهه النقد لإسرائيل ذاتها على الرغم من كونه يهوديًا. والغريب كما يؤكد جت هو أن صرامة القيود الخطابية تجاه اليهود وإسرائيل في أمريكا أشد منها في إسرائيل نفسها. جيجك بدوره لم ينجُ من «التهمة المسلطة على الرقاب»، ألا وهي معاداة السامية، وذلك لمجرد إشارته إلى وجود صهاينة معادين للسامية، انطلاقًا من اعتقاده بأن العداء للسامية ليس حكرًا على غير اليهود، بل هي حاضرة لدى بعض اليهود أنفسهم.
(مواجهات الأدب الغربي الحديث) كان هو عنوان الفصل السابع، الذي يأتي مرة أخرى مؤكدًا أن حضور الرقابة وقمع السلطة يتمثل أيضًا، وبصورة لا تقل وضوحًا عن تمثلها في الفكر والفلسفة، ويحضر في هذا الفصل كلٌّ من الشاعر الفرنسي لوي أراغون والروائي الأيرلندي جيمس جويس تحت عنوان (السريالية وتيار الشعورر)؛ وعزرا باوند وت. س. إليوت تحت عنوان (معاداة السامية )؛ بالإضافة إلى الكاتب المسرحي البريطاني هارولد بنتر، والروائي الألماني غونتر غراس.
مواجهات برزخية
الفصل الثامن والأخير من الكتاب (رغم أنه لم يبوب كذلك) خصص للحديث عن (مواجهات برزخية عبر ثقافية) وهذا هو عنوانه، متمثلة في ثلاث شخصيات تعد من أبرز الأسماء الملتبسة الهوية، وهم كلٌّ من إدوارد سعيد، ونادين غورديمير ونغويي وا ثيونغو. وقد جاء إفراد هؤلاء في هذا الجزء من الكتاب بغرض إبراز إشكالية الانتماء والهوية وأثرها على ما يبحثه الكتاب من تأثير المواجهة مع السلطات السياسية والاجتماعية والثقافية على الفكر والفنون الأدبية.
أبرز هؤلاء، خصوصًا فيما يتعلق بمسألة العلاقة بالسلطة، هو إدوارد سعيد، صاحب المقولة الشهيرة حول «قول الحق للسلطة»، ومؤلف كتاب الاستشراق الذائع الصيت الذي يعد إحدى العلامات البارزة للوقوف في «وجه المؤسسة السياسية والثقافية الغربية».
كان سعيد على يقين بأن الدور الأبرز والأهم للمثقف هو أن يكون معارضًا في سبيل إنقاذ الوعي الذي يجري خنقه وتهميشه عبر كم هائل من المعلومات المنظمة التي يهدف منها إلى خلق نوع من اللامساءلة الجمعية، كما يقول في أحد حواراته. وخنق الوعي ذاك يتطلب وجود مفكرين واعين به ومقاومين له، خاصة في المجتمعات الذي يُظن أن ذلك ليس مطلوبًا أو لا حاجة له، أي في المجتمعات الديمقراطية ودول المؤسسات والمجتمع المدني، حيث تمارس السلطة دورها بخفاء ومكر بحيث لا يشعر بتأثيرها إلا قلة قليلة من المثقفين المنفيين والهامشيين والهواة.
ملاحظات وتساؤلات
كما يلاحظ القارئ الكريم فإن (مواجهات السلطة) يزدحم بأسماء ثقافية كثيرة جدًا، بما يضفي على الكتاب طابعًا موسوعيًا على نحو ما، خاصة بالنظر إلى تطرقه للثقافتين العربية والغربية معًا، إلا أن بعض القراء قد يقرؤون هذا الكتاب وهم يتساءلون عن غياب بعض النماذج البارزة – العربية على وجه التحديد – لمثقفين وأدباء كانت لهم مواقف صريحة وواضحة وحادة مع السلطة بمختلف أطيافها، وربما كانت أكثر تمثيلًا للأوجه المختلفة لمواجهات السلطة. ولكن لنتذكر معًا ما يشير إليه الكاتب في مقدمته، فهو على وعي بمثل هذه التساؤلات ومشروعيتها، وهو يدرك تمامًا أن إيراد الكتّاب واللحظات التاريخية التي يمثلونها أمر ينطوي على اختيار «والاختيار مظنة للاختلاف في وجهات النظر والمواقف، ولا بد للمؤلف، أي مؤلف، أن يتخذ قراراته ويدافع عنها بمبررات منطقية ومقنعة» له شخصيًا، وهي قد لا تكون مقنعة لغيره بطبيعة الحال. ختامًا، يقول البازعي في مستهل كتابه إن الحديث عن مواجهة السلطة ينطوي على مواجهة بحد ذاته، وذلك لكون مفردة «سلطة» مستفزة ومقلقة بإيحاءاتها المرتبطة غالبًا بالسلطة السياسية، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا يثبت أنه قد أقدم على تلك المواجهة بشجاعة وجرأة معززة بزاد معرفي غزير وقدرة تحليلية كبيرة، وقد يصدق وينطبق عليه ما وصف به أحد المثقفين الذين تحدث عنهم في كتابه لكونه يكتب ويثري الساحة الثقافية العربية من داخل «المنطقة البرزخية أو الرمادية»، فهو «يثري الثقافة دون أن يهين نفسه بالتملق».
** **
- عبدالوهاب أبو زيد