كنت - وما زلت - أتابع باهتمام الحلقات الأدبية والثقافية والفلسفية التي تُعقد في دول العالم العربي شرقه وغربه. هالني ذلك العدد الكبير لهذه الحلقات المهمة لتطوير الفكر وتعميق التجربة البحثية، لكني بدأت أشعر بخيبة أمل كبيرة حينما تساءلت عن سبب غياب مثل هذه الحلقات في موطن العربية الأول، والأرض التي بزغ منها الأمر الإلهي (اقرأ)، وبدأت أسلي نفسي بأجوبة غير مقنعة من قبيل: قد تكون هذه الحلقات موجودة لكن التقصير مني في البحث عنها، ثم أنتقل لعذر آخر ليس بعيدًا عن ضعف الأول فأقول: توجد حلقات أدبية تقام في بعض المنازل كالصالونات الأدبية التي تقام مغرب يوم من أيام الأسبوع في منزل أحد المهتمين بالأدب والثقافة! وتجول في ذهني غيرها من الأعذار الواهية، لكن هيهات أن تقنعني بضعف الواقع الذي نحن فيه إذا قارناه بواقع غيرنا من الأقطار العربية.
أُعلن ذات يوم عن ملتقى سيشكله الدكتور سعد البازعي في النادي الأدبي. سيكون هذا الملتقى كل أسبوعين يوم الثلاثاء. وسعدت كثيرًا بحضور أول لقاء، والجلوس على يمين رئيس الملتقى الدكتور سعد. وأتذكر أن الحضور كان قليلًا، لكنه مبهج. وسارت الندوات كما تسير غيرها في الأقطار العربية من حيث عمق المضمون وقوة المواضيع المطروحة. وكل ذلك يعود فضله للدكتور سعد الذي حرك الماء الراكد في الثقافة المحلية بهذا الملتقى الفريد.
قد يقول قائل: هذا الملتقى ليس جديدًا على المشهد السعودي؛ فوجود مثله كثير. وهذا - بلا شك - صحيح، لكن المختلف في ملتقى الدكتور سعد أنه أعطى الفرصة لكثير من الشباب الذي لم يكن يطمح للمشاركة الفعلية بتقديم أوراق عمل باسمه. يُضاف لذلك المجهود الشخصي الذي يقوم به الدكتور دون أن يكون ذلك جزءًا من عمل رسمي يؤديه، واستمرار الملتقى رغم كثير من الصعوبات التي واجهته، وتنقله من النادي الأدبي إلى جمعية الثقافة، وأخيرًا نادي شركة الكهرباء.
يتميز ملتقى الدكتور سعد بأنه الأول - حسب معرفتي - الذي نقل الثقافة إلى أروقة الشركات الخاصة؛ فالملتقى يقيم ندواته في نادي شركة الكهرباء. وهذه نقلة نوعية من حيث الجمع بين الثقافة والمؤسسة الربحية.
الظاهرة سعد البازعي ألَّف في العديد من القضايا النقدية والفكرية التي ألهمت جيلًا كاملًا، وأسست مدرسة فكرية، ستكون مستقبلًا كمدرسة براغ وكوبنهاجن وباريس؛ مدارس فكرية، تؤثر في المشهد العربي، وتطور البنية العقلية فيه. وهو من القلائل الذين جمعوا بين الكتابة في الفكر، وتأسيس مدرسة تطبق وتناقش الفكر؛ وهذا ما جعلني أصفه بالظاهرة.
يعد الظاهرة سعد البازعي من أوائل الذين ألَّفوا في المعاجم النقدية من خلال كتابه القيم مع الدكتور ميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي. وهو كتاب مختلف عن غيره في الثقافة العربية التي اعتادت على أن تكون المعاجم خاصة بالألفاظ وبنيتها. وهو مجهود استفاد منه أكثر الباحثين العرب؛ فالدكتور سعد يتميز عن غيره من أساتذة الجيل بأنه يؤسس لأفكار تدوم وتثمر فكرًا وعلمًا.
أخيرًا.. الدكتور سعد البازعي، أو الظاهرة سعد، جدير بالتقدير والتكريم لمجهوداته العلمية وأنشطته الثقافية البارزة والملهمة. ولست أنا من يقيمه أو يثني عليه؛ فإنتاجه ظاهر بيّن، وإن خالفته في بعض الأفكار التي يتبناها إلا إنه - بلا شك - أستاذ عالم، ومجتهد ألمعي.
** **
- طارق القرني