د.فهد نايف الطريسي
(1) مدخل:
هناك ثلاثة رؤوس للمثلث؛ رأس يموّل، رأس يتبنى وينفذ، ورأس يوفر المعطيات الأولية.
(2) صناعة الأزمة: (التخطيط الاستراتيجي للتفجير):
تعمل أجهزة مخابرات دول العالم بأكفأ أدوات التخطيط والتنظيم والتنسيق، فهي مؤسسات علمية وليست فوضوية، فلنأخذ مثالاً على ذلك الموساد؛ والذي نفذ مئات عمليات الاغتيال سواء تلك التي أعلن عنها أو لم يعلنها: فخلال فترة السبعينيات فقط، نفذ الموساد حوالي (22) عملية اغتيال ناجحة بدأت بالأديب والصحافي العالمي غسان كنفاني، وانتهت باغتيال حسن سلامة القيادي بحركة التحرير الفلسطينية، ثم توالت عمليات اغتيال الموساد في العقود التالية لتتجاوز المائتي عملية اغتيال كان آخرها اغتيال القائد القسامي أحمد الجعبري، ويمكن إيجاد قائمة طويلة بأسماء المغتالين بعمليات الموساد الناجحة، يمكننا أيضاً أن نضيف عمليات اغتيالات تمت في قطر وكذلك في بريطانيا، أبرزها عملية اغتيال (نظيفة) للأميرة ديانا.
فأجهزة المخابرات لا تعمل بشكل فوضوي وغير مدروس سواء من ناحية العواقب السياسية أو الدبلوماسية أو الاقتصادية أو الأمنية. لذلك كان من أهم ما لفت انتباهي أن قطر التي أنفقت ما يقارب المليار ومائتي مليون دولار على حملة تجريم المملكة باغتيال خاشقجي، وذلك بدفع مبالغ مليونية لأجهزة إعلامية غربية، بل والتعاقد مع مراكز إعلامية غربية على تدويل الشائعات، وربما حتى رشوة بعض سياسيي الغرب لأخذ تصريح صغير لا يتجاوز سبع كلمات بملايين الدولارات، ثم تحويل تلك الكلمات السبع لمقالات وصور وبوسترات وإعلانات يتم بثها عبر الوسائط الإعلامية الرقمية والتقليدية.. رغم كل ذلك كانت هناك مشكلة صغيرة جداً؛ صغير ولكنها مفصلية. وهي أن المسرحية القطرية التي حاولت تركيا تطعيمها بتصريحات متضاربة وفاقدة للمنطق؛ هذه الأقصوصة كانت تفتقر لأهم ما يميز أي عملية اغتيالات تقوم بها دولة تجاه أحد عملاء أعدائها: وهي أنها بدت مسرحية شديدة العشوائية بل وتضع كل من يسمعها أمام تساؤل مباشر:
- هل يمكن لأجهزة مخابرات دولة أن تغتال الهدف داخل سفارتها؟
هل كان الهدف مختبئاً عن أعين أجهزة مخابرات دولته؟ هل كان بالإمكان الوصول للهدف في أي وقت أو مكان آخر؟ هل كان بالإمكان ترتيب عملية اغتيال (نظيفة) كعملية اغتيال الأميرة ديانا؟ هل كان بالإمكان لأجهزة المخابرات أن تجند مؤسسات متخصصة للقيام بعملية الاغتيال بحيث تبعد أي شبهة عنها؟ هل كان بالإمكان التخطيط لعملية اغتيال أكثر تنسيقا وكفاءة من تلك المسرحية القطرية التركية الباهتة؟ هل الهدف نفسه من الخطورة بمكان ليتم اغتياله؟ هل الاغتيال عاجل لمخاطر محدقة بالدولة من قبل الهدف؟
هذه أسئلة شديدة المنطقية، عندما نتحدث عن تعامل أجهزة استخبارات دولة تجاه هدف محدد؟ فالاغتيال ليس شيئاً مستنكراً في العمل الاستخباراتي باعتباره دفاعاً عن مصلحة جوهرية للدولة؟ وكما رأينا فإسرائيل مثلاً مارست الاغتيال النظيف والأسود (سرًّا وجهرًا)، وكذلك تركيا نفسها، بل والمخابرات الأمريكية CIA والسافاك والكي جي بي ..الخ.
إذن فالتحليل المنطقي لاختفاء خاشقجي ومبادرة قطر بالحديث عن اغتياله يجعل الأكثر قرباً إلى الواقع أن لقطر دوراً بارزاً في اختفاء خاشقجي، وليس من المستبعد أن تكون قطر قد أعدت لهذه العملية من ناحية الحرب النفسية الإعلامية قبل تنفيذ هذه العملية سواء بشكل مباشر أو بوساطة أجهزة استخبارات لها تاريخ طويل وخبرات متراكمة في هذا الشأن.
قطر تنفق بسخاء والغرب بمؤسساته المختلفة يتنازل عن كل مبادئه المعلنة والتي يستخدمها كسلاح للإمبريالية الجديدة (إمبريالية ما بعد الحرب العالمية الثانية)، والتي ترتكز على المال لتحقيق أهدافها القذر لذلك نجد أن كثيراً من صحافيي الصحف الورقية المفلسة يتخلى عن مفاهيم الحرية والديموقراطية وكل هذه المصطلحات الرنانة. وإذا كان الغرب حريصاً على استقرار وحرية الشرق، لماذا صمت عن محاولة قطر وليبيا (القذافي) اغتيال الملك عبدالله -رحمه الله-.
استطاعت قطر شراء كأس العالم بعد أن أنفقت مليارات الدولارات من أجل الصيت فقط، واتهمت بعد ذلك بتقديم الرشى الميليارية لممثلي الدول الغربية وإدارة الفيفا وجرت محاكمات عدة ولكن الغرب لم يستطع إكمال احتجاجاته الناتجة عن شعوره بالخزي.
نعم لقد كانت الخطة القطرية التركية الغربية هي إيقاع المملكة في المصيدة، لكن الأمر انقلب ضد الحلف الثلاثي؛ حلف قطر التي تنفذ سياساتها التدميرية ضد الثقافة العربية والإسلامية في كل الدول العربية، وتركيا التي حصلت من قطر على وعود في الهواء بمليارات الدولارات. والمراكز الإعلامية الغربية ذات الخبرة والتي تخدم من يدفع.
لا أنكر أن الهجمة كانت سريعة وربما مفاجئة وعلى حين غرة، لكن هذه السرعة التي أعتقد أن سببها هو عدم انكشاف الخطة، أدت لنتائج عكسية، فمسرحية الإعلام القطري والتركي تحولت إلى مسرحية هزلية سيئة التأليف والإنتاج والإخراج والتمثيل بل وحتى السيناريو.
كانت قطر أول من أعلن عن اختفاء خاشقجي، وهذه نقطة يجب الوقوف عندها، بعد ذلك تم الاستعانة بامرأة ادعت أنها خطيبة خاشقجي، وخاشقجي رجل يدلف إلى خريفه الستين، والمرأة لم تثبت وجود رابط قانوني موثق بينهما فاكتفت بصفة الخطيبة، كان إعلام الجزيرة ينقل أقاصيص بلسان المرأة ويسربها لوكالة الأناضول، ولكن ما حدث أن الأقاصيص تضاربت بشدة، والمرأة صرحت في الجزيرة بأنها كانت خارج السفارة السعودية وصرحت للأناضول بأنها لم تذهب للسفارة من الأصل. ويبدو أن دور المرأة الشبح هذه بات مقلقاً لقطر وتركيا الإخوانيين، فخلال الأسابيع الماضية صمتت المرأة، وبدأت حرب الشائعات، ثم تصريحات خجولة من سياسيين أمريكيين ترغي وتزبد وتتوعد في سبع كلمات مدفوعة الأجر مسبقاً وكان هذا كافياً للمراكز الإعلامية لتصنع من السبع كلمات معلقات شعرية يتم بثها عبر الوسائل الإعلامية الأخرى في شكل نكات أو صور مدبلجة أو مانشتات عناوين إخبارية، خاشقجي الذي لم يكن يعرفه إلا قلة من المهتمين بالشأن الصحفي تحول بين عشية وضحاها من ضحية إلى سياسي ومحلل استراتيجي لا يشق له غبار، ثم بلغ شأو المجد فصار أخطر رجل إعلام في العالم، وصار يقف كتفاً بكتف مع الملوك والأمراء حتى أنهم قرروا التخلص منه منعاً للمنافسة. ثم تحول خاشقجي إلى المهاتما غاندي ونيلسون مانديلا بطلاً لليبرالية والديموقراطية والقلم الحر، ثم بلغ أن أصبح شهيداً وغير مستبعد أن يرسمه الإعلام القطري أو الإعلام القطري بالوكالة قديساً تقام على كراماته الصلوات.
(3) كيف تتعامل المملكة مع الحقائق على أرض الواقع:
أولاً أود أن أشير إلى أنني وقبل قضية خاشقجي هذا شرعت في الإعداد لبحث مهم جداً عن الحرب النفسية، لقد كتب العديدون عما يسمى بالحرب النفسية والتي تستخدم الإعلام والبروباجندا والشائعات في تدمير الروح المعنوية للعدو. لكنني لم أخطط لتناول الحرب النفسية من وجهتها السلبية وإنما من كونها علماً له أصول، وهذا أمر شديد الأهمية ويجب الانتباه له. فالمملكة لا يجب أبداً أن تكون في حالة رد الفعل بقدر ما يجب أن تمارس هي نفسها فعلاً استباقياً؛ أي أن المملكة يجب أن تمارس الحرب النفسية الوقائية قبل الحرب النفسية المضادة.
هذا مهم جداً؛ ومن الأهمية بمكان أن نفهم التغيرات التي انتظمت القيم العالمية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين وتسنم الولايات المتحدة الأمريكية لقمة السيادة على النظام العالمي الجديد، والأهم من هذا كله أن ندرك أن هناك تغيرات راديكتاية على مستوى إدارة الأمن والأمن الوقائي والأمن المضاد، من حيث أدواته الحديثة خاصة في مجال الإعلام الرقمي والفضائي.
لقد نوهنا قبل سنوات إلى هذه النقطة في أحد مقالاتنا، وأكدنا ضرورة أن تشرع المملكة في تطوير وتحديث كفاءة المنظومة الأمنية الإعلامية، لتتلاحم مع المنظومة الأمنية الكلاسيكية، بحيث تعمل بكفاءتها القصوى على إحاطة المملكة بسياج حمائي ووقائي ودفاعي إعلامي قوي وذي بأس.
فالعالم اليوم ليس هو العالم نفسه قبل سنة فقط وليس بالتأكيد العالم نفسه قبل خمس سنوات.. العالم اليوم يحتاج إلى أدوات اليوم، بل يحتاج إلى أدوات الغد، بل يحتاج إلى أدوات ما بعد عقود من اليوم.
وآخر قولنا هو دعوة الجميع ليتلاحموا ويؤازروا قيادتنا، فهذه اللُحمة هي نقطة اتزان الميزان الذي يستقر بها السلام الاجتماعي وتقوى بها الدولة والأم.