د.عبد الرحمن الحبيب
رغم شراسة الهجمة الإعلامية الخارجية على بلادنا في قضية الإعلامي جمال خاشقجي، وما تنشره من افتراءات وإصدار أحكام تقفز على النتائج، إلا أنها أيضاً أظهرت عمق الحكمة السياسية للقيادة السعودية حيث جمعت بين الحزم والعقلانية والمصداقية، بأنها سترد على أي إجراء مضاد بإجراء أكبر، وفي نفس الوقت أعلنت صلابة علاقتها التاريخية مع أمريكا وتركيا، وهي الآن تحقق في القضية بشفافية وعدالة، وتعلن النتائج تباعاً بكل شجاعة ومصداقية.
كما أن النجاح الدبلوماسي المميز للقيادة السعودية في التعامل مع هذه القضية بالساحة الدولية، والنجاح الإعلامي المبهر من الشعب السعودي في الدفاع عن بلادنا بوسائل التواصل الاجتماعي وفي المشاركة بالقنوات الخارجية أظهر للعالم أن المملكة العربية السعودية دولة عظمى بالتلاحم الوثيق بين القيادة والشعب، مثلما هي دولة عظمى في علاقاتها الخارجية.
بيد أن هذه النجاحات الرائعة لم تواكبها بذات المستوى مؤسساتنا الإعلامية في رسالتها للخارج حسبما طرحت بعض الأقلام بصحافتنا المحلية التي اقترحت العديد من الأفكار لتفعيل أدائنا الإعلامي لمواجهة الهجمات الإعلامية ضد بلادنا. هنا من المفيد لمواجهة الافتراءات معرفة إحدى تقنيات تحويل الخبر إلى قصة تجعله في مقدمة الأخبار العالمية، وقد تكون الحقيقة فيها أولى ضحاياها..
هناك خبر وهناك قصة. كلنا نذكر قبل أربعة أشهر خبر الشباب التايلنديين الذين علقوا بالكهف، وكيف تحول إلى قصة ظلت على رأس الأخبار لأسابيع حتى إنقاذهم.. قبل أربع سنوات حظي خبر مقتل ملكة جمال هندوراس بتغطية إعلامية هائلة متصدراً الأخبار، وحاز أعلى نسبة قراءة في أكبر المواقع العالمية، بينما آلاف القتلى في اليوم ذاته لم يحظوا بعُشر هذه التغطية. لماذا؟ لأن خبر ملكة الجمال يوحي بقصة مثيرة، بينما أخبار القتلى الآخرين يحوي أرقاماً بلا قصة. الخبر الأول أكثر إثارة لتفكيرنا العاطفي من الثاني حسب نظرية الذهن، رغم أن الخبر الثاني أهم كثيراً حسب نظرية المعلومات، ورغم أننا ندرك أنّ ثمة ضحايا كُثر بالخبر الثاني وفاجعة أكبر إلا أننا لا نرسم لهم صورة بأذهاننا كما تفعل القصة بالخبر الأول. وفي قضية خاشقجي بدأ الخبر بنداء استغاثة ممن تقول إنها خطيبته، هنا تحول الخبر مباشرة إلى قصة؛ وتلاها اختراع أحداث وحكايات متفرعة منتجة قصصاً سوريالية تنافس أفلام هوليوود..
هناك قصة وهناك معلومات.. لماذا تؤثر القصة أكثر من المعلومات؟ لأن المتلقي غالباً ما يشكل علاقة عاطفية مع طرف واحد في القصة، بينما المعلومات تشكل علاقة عقلانية مع كافة الأطراف. الأولى تتوجه للمشاعر، والثانية تتوجه للتفكير العقلاني. الناس ينجذبون للقصة لأنها ترسخ بسهولة في الذهن، بينما التفكير العقلاني يتطلب جهداً ذهنياً. الدماغ البشري - حسب نظرية الذهن - يبدأ عادة باستخدام القصص لتفسير الأحداث والعالم والأشياء من حولنا قبل أن يبدأ بالتفكير العقلي؛ لذا الأساطير بدأت قبل الفلسفة والعلم.
نحن ننسج عُقد التفاصيل عبر قصة سهلة واضحة رغم كافة العقد المتشابكة. نريد تشكيل حياتنا عبر نموذج يسهل فهمه واتباعه. يطلق على هذا «تحيز القصة» (Story Bias) وانحرافه عن واقع الأمر وتفاصيله وخلفياته (رولف دوبليه). القصة تحرِّف الوقائع وتجمع ما لا يجتمع في نسيج جذاب. يقول الروائي ماكس فريش: «ننسج القصص كما ننسج الملابس». ورغم إدراكنا لانحرافها عن الواقع فإننا لا نستطيع أن نفكر بدونها، حتى وهي تؤثر في جودة أحكامنا وقراراتنا.
في قضية خاشقجي يمكن بسهولة ملاحظة ما قامت به أشهر قنوات الأخبار بنسج القصص، وإثارة الشك بلا سند من حقائق، والكذب عن قصد أو عن جهل، فضلاً عما تمارسه الجهات المعادية أو ذات المصلحة من تأليف أحداث لغايتها الخاصة في خضم الغموض الذي يكتنف القضية. لقد توصل روبرت بروكتور (مؤرخ علمي بجامعة ستانفورد) عبر دراساته العديدة إلى أن الجهل ينتشر عندما لا يفهم كثير من الناس حقيقة ما؛ إذ تقوم جماعات المصالح الخاصة كجماعة سياسية أو شركة تجارية بعمل جاد لخلق حالة من الارتباك والحيرة إزاء قضية من القضايا. يقول بروكتور: «بتُّ على قناعة بأنه يتوجب على المؤرخين إعطاء هذا الأمر اهتماماً أكبر.. في الوقت الذي يستفيد فيه بعض الأذكياء من المعلومات المتوافرة، فإنَّ كثيراً منهم يقعون في براثن الخداع حين يصدقون ما يقوله أصحاب الخبرات المزيفة».
الإعلام، خاصة بالإنترنت، يدرك أنّ الحقائق التقريرية لا تغري الجمهور مثلما تفعل القصص حول هذه الحقائق مع الصور المجتزأة من سياقها أو المفبركة؛ لذا تقل التقارير التوثيقية أمام قصة الخبر، وتقل المقالات التحليلية أمام مقالات الرأي الشخصي، وتقل هذه الأخيرة أمام مقالات الهذر.. لتصبح المعرفة منفصلة عن سؤال الحقيقة، ولا تُحاكم عن مدى مصداقيتها بل كيف يمكنها خدمة غاية معينة.
ومن هنا، إذا كان علينا مواجهة التزييف بالحقائق الدامغة فإن علينا أيضاً الأخذ في الاعتبار الأسلوب وجاذبيته، وعدم الاكتفاء بالحقائق التقريرية الجافة بل مواجهة القصة المزيفة بالقصة الحقيقية، ومواجهة المنطق غير العقلاني بعقلانية مقنِعة.. والأهم إخراج ذلك بأسلوب فني جذاب.. فإن كانوا ينسجون القصص المزيفة فعلينا نسج القصص الحقيقية..